للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِنْ كَانَتْ مَسْمُومَةً، مَنَعَهُ الِاسْتِيفَاءَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا تُفْسِدُ الْبَدَنَ، وَرُبَّمَا مَنَعَتْ غُسْلَهُ.

وَإِنْ عَجَّلَ فَاسْتَوْفَى بِآلَةِ كَالَّةٍ أَوْ مَسْمُومَةٍ، عُزِّرَ. وَإِنْ كَانَ السَّيْفُ صَارِمًا غَيْرَ مَسْمُومٍ، نَظَرَ فِي الْوَلِيِّ؛ فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ، وَيُكْمِلُهُ بِالْقُوَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ، مَكَّنَهُ مِنْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: ٣٣] . وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ، إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» . وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ مُتَمَيِّزٌ، فَكَانَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ بِنَفْسِهِ إذَا أَمْكَنَهُ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الِاسْتِيفَاءَ، أَمَرَهُ بِالتَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، فَإِنْ ادَّعَى الْوَلِيُّ الْمَعْرِفَةَ بِالِاسْتِيفَاءِ، فَأَمْكَنَهُ السُّلْطَانُ مِنْ ضَرْبِ عُنُقِهِ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ فَأَبَانَهُ، فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَإِنْ أَصَابَ غَيْرَهُ، وَأَقَرَّ بِتَعَمُّدِ ذَلِكَ، عُزِّرَ.

وَإِنْ قَالَ: أَخْطَأْتَ. وَكَانَتْ الضَّرْبَةُ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْ الْعُنُقِ، كَالرَّأْسِ وَالْمَنْكِبِ، قُبِلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ الْخَطَأُ فِي مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا، كَالْوَسْطِ وَالرِّجْلَيْنِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَقَعُ الْخَطَأُ فِيهِ. ثُمَّ إنْ أَرَادَ الْعَوْدَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُمَكَّنُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ، وَيَحْتَمِلُ الْعَوْدَ إلَى مِثْلِ فِعْلِهِ. وَالثَّانِي: يُمَكَّنُ مِنْهُ. قَالَهُ الْقَاضِي: لِأَنَّ الظَّاهِرَ تَحَرُّزُهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ ثَانِيًا. وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ، أَمَرَهُ بِالتَّوْكِيلِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ، فَكَانَ لَهُ التَّوْكِيلُ فِي اسْتِيفَائِهِ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُوَكِّلُهُ إلَّا بِعِوَضٍ، أَخَذَ الْعِوَضَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُرْزَقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ رَجُلٌ يَسْتَوْفِي الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ، فَالْأُجْرَةُ عَلَى الْجَانِي؛ لِأَنَّهَا أُجْرَةٌ لِإِيفَاءِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، فَكَانَتْ عَلَيْهِ، كَأُجْرَةِ الْكَيَّالِ فِي بَيْعِ الْمَكِيلِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ عَلَى الْمُقْتَصِّ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ، فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ عَلَى مُوَكِّلِهِ، كَسَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَاَلَّذِي عَلَى الْجَانِي التَّمْكِينُ دُونَ الْفِعْلِ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ نَفْسِهِ، لَمْ يُمَكَّنْ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ أُجْرَةُ التَّوْكِيلِ، لَلَزِمَتْهُ أُجْرَةُ الْوَلِيِّ إذَا اسْتَوْفَى بِنَفْسِهِ.

وَإِنْ قَالَ الْجَانِي: أَنَا أَقْتَصُّ لَك مِنْ نَفْسِي. لَمْ يَلْزَمْ تَمْكِينُهُ، وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: ٢٩] . وَلِأَنَّ مَعْنَى الْقِصَاصِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَوْفِيَ لَهُ كَالْبَائِعِ لَا يَسْتَوْفِي مِنْ نَفْسِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>