للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَظْهَرُ وَيَنْتَشِرُ. وَلَمْ يُنْكَرْ، فَيَثْبُتُ إجْمَاعًا. وَهَذَا فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ تَغْلِيظَاتٍ ثَلَاثٍ؛ وَلِأَنَّهُ قَوْلُ التَّابِعِينَ الْقَائِلِينَ بِالتَّغْلِيظِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى التَّغْلِيظِ فِي الْعَمْدِ، أَنَّهُ إذَا غُلِّظَ الْخَطَأُ مَعَ الْعُذْرِ فِيهِ، فَفِي الْعَمْدِ مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ أَوْلَى. وَكُلُّ مَنْ غَلَّظَ الدِّيَةَ أَوْجَبَ التَّغْلِيظَ فِي بَدَلِ الطَّرَفِ، بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ تَغْلِيظَ دِيَةِ النَّفْسِ، أَوْجَبَ تَغْلِيظَ دِيَةِ الطَّرَفِ، كَالْعَمْدِ.

وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الدِّيَةَ لَا تُغَلَّظُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْجُورْجَانِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِمْ، «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» . لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. (وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ مِثْقَالٍ) وَفِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَأَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ، وَأَنَا وَاَللَّهِ عَاقِلُهُ، مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ؛ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» .

وَهَذَا الْقَتْلُ كَانَ بِمَكَّةَ فِي حَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَزِدْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الدِّيَةِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ، وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: ٩٢] يَقْتَضِي أَنَّ الدِّيَةَ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ مَكَان، وَفِي كُلِّ حَالٍ، وَلِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخَذَ مِنْ قَتَادَةَ الْمُدْلِجِيِّ دِيَةَ ابْنِهِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى مِائَةٍ. وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبَى الزِّنَادِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْد الْعَزِيزِ، كَانَ يَجْمَعُ الْفُقَهَاءِ، فَكَانَ مِمَّا أُحْيِي مِنْ تِلْكَ السُّنَنِ بُقُولِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ وَنُظَرَائِهِمْ، أَنَّ نَاسًا كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ الدِّيَةَ تُغَلَّظُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، فَتَكُونُ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَلْغَى عُمَرُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ذَلِكَ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ، وَأَثْبَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالْبَلَدِ الْحَرَامِ، وَغَيْرِهِمَا.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَيْسَ بِثَابِتٍ مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا. وَلَوْ صَحَّ فَقَوْلُ عُمَرَ يُخَالِفُهُ، وَقَوْلُهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ، وَهُوَ أَصَحُّ فِي الرِّوَايَةِ، مَعَ مُوَافَقَتِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْقِيَاسَ.

[فَصْلٌ لَا تَغْلُظ الدِّيَة بِمَوْضِعِ غَيْر الْحَرَم]

(٦٧٩٢) فَصْلٌ: وَلَا تُغَلَّظُ الدِّيَةُ بِمَوْضِعٍ غَيْرِ الْحَرَمِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: تُغَلَّظُ الدِّيَةُ بِالْقَتْلِ فِي الْمَدِينَةِ. عَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّهَا مَكَانٌ يَحْرُمُ صَيْدُهُ، فَأَشْبَهْت الْحَرَمَ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلْمَنَاسِكِ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ

<<  <  ج: ص:  >  >>