للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَحَدُ حُجَّتَيْ الزِّنَا، فَلَمْ يَبْطُلْ بِوُجُودِ الْحُجَّةِ الْأُخْرَى أَوْ بَعْضِهَا، كَالْإِقْرَارِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ وُجُودَ الْإِقْرَارِ يُؤَكِّدُ الْبَيِّنَةَ، وَيُوَافِقُهَا، وَلَا يُنَافِيهَا، فَلَا يَقْدَحُ فِيهَا، كَتَزْكِيَةِ الشُّهُودِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَلَا نُسَلِّمُ اشْتِرَاطَ الْإِنْكَارِ، وَإِنَّمَا يُكْتَفَى بِالْإِقْرَارِ فِي غَيْرِ الْحَدِّ إذَا وُجِدَ بِكَمَالِهِ، وَهَا هُنَا لَمْ يَكْمُلْ، فَلَمْ يَجُزْ الِاكْتِفَاءُ بِهِ، وَوَجَبَ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ، وَالْعَمَلُ بِهَا.

وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ مَرَّةً، أَوْ دُونَ الْأَرْبَعِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَمَّتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ، وَأَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ إقْرَارًا تَامًّا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ بِرُجُوعِهِ، وَقَوْلُهُ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ.

[فَصْلٌ شَهِدَ شَاهِدَانِ وَاعْتَرَفَ هُوَ مَرَّتَيْنِ بِالزِّنَا]

(٧١٩٣) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ، وَاعْتَرَفَ هُوَ مَرَّتَيْنِ، لَمْ تَكْمُلْ الْبَيِّنَةُ، وَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا بَيْنَ مَنْ اعْتَبَرَ إقْرَارَ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ لَمْ تَكْمُلْ، وَلَا تُلَفَّقُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، كَإِقْرَارِ بَعْضٍ مَرَّةً.

[فَصْلٌ كَمَلَتْ الْبَيِّنَةُ ثُمَّ مَاتَ الشُّهُودُ أَوْ غَابُوا]

(٧١٩٤) فَصْلٌ: وَإِنْ كَمَلَتْ الْبَيِّنَةُ، ثُمَّ مَاتَ الشُّهُودُ أَوْ غَابُوا، جَازَ الْحُكْمُ بِهَا، وَإِقَامَةُ الْحَدِّ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونُوا رَجَعُوا وَهَذِهِ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ. وَلَنَا أَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ جَازَ الْحُكْمُ بِهَا مَعَ حُضُورِ الشُّهُودِ، جَازَ مَعَ غَيْبَتِهِمْ، كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ، وَاحْتِمَالُ رُجُوعِهِمْ لَيْسَ بِشُبْهَةٍ كَمَا لَوْ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمْ.

[فَصْلٌ شَهِدُوا بِزِنًا قَدِيمٍ أَوْ أَقَرَّ بِهِ]

(٧١٩٥) فَصْلٌ: وَإِنْ شَهِدُوا بِزِنًا قَدِيمٍ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ، وَجَبَ الْحَدُّ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَقْبَلُ بَيِّنَةً عَلَى زِنًا قَدِيمٍ، وَأَحُدُّهُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ. وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا شُهُودٍ شَهِدُوا بِحَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا بِحَضْرَتِهِ، فَإِنَّمَا هُمْ شُهُودُ ضِغْنٍ؛ وَلِأَنَّ تَأْخِيرَهُ لِلشَّهَادَةِ إلَى هَذَا الْوَقْتِ يَدُلُّ عَلَى التُّهْمَةِ، فَيَدْرَأُ ذَلِكَ الْحَدَّ.

وَلَنَا عُمُومُ الْآيَةِ وَأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ عَلَى الْفَوْرِ، فَيَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.

وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْحَسَنُ مُرْسَلًا، وَمَرَاسِيلُ الْحَسَنِ لَيْسَتْ بِالْقَوِيَّةِ، وَالتَّأْخِيرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ أَوَغَيْبَةً، وَالْحَدُّ لَا يَسْقُطُ بِمُطْلَقِ الِاحْتِمَالِ، فَإِنَّهُ لَوْ سَقَطَ بِكُلِّ احْتِمَالٍ، لَمْ يَجِبْ حَدٌّ أَصْلًا.

[فَصْلٌ الشَّهَادَةُ بِالْحَدِّ مِنْ غَيْرِ مُدَّعٍ]

(٧١٩٦) فَصْلٌ: وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالْحَدِّ مِنْ غَيْرِ مُدَّعٍ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَاحْتَجَّ بِقَضِيَّةِ أَبِي بَكْرَةَ، حِينَ شَهِدَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْمُغِيرَةِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى، وَشَهِدَ الْجَارُودُ وَصَاحِبُهُ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ دَعْوَى. وَلِأَنَّ الْحَدَّ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ تَفْتَقِرْ الشَّهَادَةُ بِهِ إلَى تَقَدُّمِ دَعْوَى، كَالْعِبَادَاتِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>