للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَذَلِكَ إنْ لَتَّ بِهِ سَوِيقًا فَأَكَلَهُ. وَإِنْ عَجَنَ بِهِ دَقِيقًا، ثُمَّ خَبَزَهُ فَأَكَلَهُ، لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّ النَّارَ أَكَلَتْ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَثَرُهُ. وَإِنْ احْتَقَنَ بِالْخَمْرِ، لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشُرْبٍ وَلَا أَكْلٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى حَلْقِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَاوَى بِهِ جُرْحَهُ، وَإِنْ اسْتَعَطَ بِهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَهُ إلَى بَاطِنِهِ مِنْ حَلْقِهِ، وَلِذَلِكَ نُشِرَ الْحُرْمَةُ فِي الرَّضَاعِ دُونَ الْحُقْنَةِ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عَلَى مَنْ احْتَقَنَ بِهِ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَهُ إلَى جَوْفِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -.

[الْفَصْلُ الثَّالِثُ حَدُّ شُرْبِ الْخَمْرِ]

(٧٣٤١) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي قَدْرِ الْحَدِّ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ ثَمَانُونَ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ؛ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: اجْعَلْهُ كَأَخَفِّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ. فَضَرَبَ عُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكَتَبَ بِهِ إلَى خَالِدٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ بِالشَّامِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ فِي الْمَشُورَةِ: إنَّهُ إذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى. فَحَدُّوهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي. رَوَى ذَلِكَ الْجُوزَجَانِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَغَيْرُهُمَا.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّ الْحَدَّ أَرْبَعُونَ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ قَالَ: «جَلَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعِينَ» وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.، وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَضَرَبَهُ بِالنِّعَالِ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ» ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَصَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ عُمَرُ، فَاسْتَشَارَ النَّاسَ فِي الْحُدُودِ، فَقَالَ ابْنُ عَوْفٍ: أَقَلُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ. فَضَرَبَهُ عُمَرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّةٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَا خَالَفَ فِعْلَ النَّبِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَتُحْمَلُ الزِّيَادَةُ مِنْ عُمَرَ عَلَى أَنَّهَا تَعْزِيرٌ، يَجُوزُ فِعْلُهَا إذَا رَآهُ الْإِمَامُ.

[الْفَصْلُ الرَّابِعُ إلْزَامُ الْحَدِّ لِمَنْ شَرِبَ بِاخْتِيَارِهِ]

(٧٣٤٢) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ شَرِبَهَا مُخْتَارًا لِشُرْبِهَا، فَإِنْ شَرِبَهَا مُكْرَهًا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا إثْمَ، سَوَاءٌ أُكْرِهَ بِالْوَعِيدِ وَالضَّرْبِ، أَوْ أُلْجِئَ إلَى شُرْبِهَا بِأَنْ يُفْتَحَ فُوهُ، وَتُصَبَّ فِيهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَإِ، وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَكَذَلِكَ الْمُضْطَرُّ إلَيْهَا لِدَفْعِ غُصَّةٍ بِهَا، إذَا لَمْ يَجِدْ مَائِعًا سِوَاهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: ١٧٣] وَإِنْ شَرِبَهَا لِعَطَشٍ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَتْ مَمْزُوجَةً بِمَا يَرْوِي مِنْ الْعَطَشِ، أُبِيحَتْ لِدَفْعِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَمَا تُبَاحُ الْمَيْتَةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>