للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ، وَكَإِبَاحَتِهَا لِدَفْعِ الْغُصَّةِ، وَقَدْ رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ أَنَّهُ أَسَرَهُ الرُّومُ، فَحَبَسَهُ طَاغِيَتُهُمْ فِي بَيْتٍ فِيهِ مَاءٌ مَمْزُوجٌ بِخَمْرٍ، وَلَحْمُ خِنْزِيرٍ مَشْوِيٌّ، لِيَأْكُلَهُ وَيَشْرَبَ الْخَمْرَ، وَتَرَكَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ أَخْرَجُوهُ حِينَ خَشُوا مَوْتَهُ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَحَلَّهُ لِي، فَإِنِّي مُضْطَرٌّ، وَلَكِنْ لَمْ أَكُنْ لِأُشْمِتَكُمْ بِدِينِ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ شَرِبَهَا صِرْفًا، أَوْ مَمْزُوجَةً بِشَيْءٍ يَسِيرٍ لَا يَرْوِي مِنْ الْعَطَشِ، أَوْ شَرِبَهَا لِلتَّدَاوِي، لَمْ يُبَحْ لَهُ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُبَاحُ شُرْبُهَا لَهُمَا. وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: يُبَاحُ شُرْبُهَا لِلتَّدَاوِي دُونَ الْعَطَشِ؛ لِأَنَّهَا حَالُ ضَرُورَةٍ، فَأُبِيحَتْ فِيهَا، لِدَفْعِ الْغُصَّةِ وَسَائِرِ مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ. وَلَنَا مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ «طَارِقِ بْنِ سُوَيْد، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ. فَقَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ مُخَارِقٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَدْ نَبَذَتْ نَبِيذًا فِي جَرَّةٍ، فَخَرَجَ وَالنَّبِيذُ يَهْدُرُ، فَقَالَ: " مَا هَذَا؟ " فَقَالَتْ: فُلَانَةُ اشْتَكَتْ بَطْنَهَا، فَنَقَعْت لَهَا، فَدَفَعَهُ بِرِجْلِهِ فَكَسَرَهُ، وَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ شِفَاءً» وَلِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ لِعَيْنِهِ، فَلَمْ يُبَحْ لِلتَّدَاوِي، كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ؛ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَنْدَفِعُ بِهِ فَلَمْ يُبَحْ، كَالتَّدَاوِي بِهَا فِيمَا لَا تَصْلُحُ لَهُ.

[الْفَصْلُ الْخَامِسُ الْحَدُّ يَلْزَمُ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ عَالِمًا أَنَّ كَثِيرَهَا يُسْكِرُ]

(٧٣٤٣) الْفَصْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ شَرِبَهَا عَالِمًا أَنَّ كَثِيرَهَا يُسْكِرُ، فَأَمَّا غَيْرُهُ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهَا، وَلَا قَاصِدٍ إلَى ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ بِهَا، فَأَشْبَهَ مَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ زَوْجَتِهِ. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَأَمَّا مَنْ شَرِبَهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهَا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ قَالَا: لَا حَدَّ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَهُ. وَلِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِالتَّحْرِيمِ، أَشْبَهَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا خَمْرٌ. وَإِذَا ادَّعَى الْجَهْلَ بِتَحْرِيمِهَا نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ نَاشِئًا بِبَلَدِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ، فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ، أَوْ نَاشِئًا بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ الْبُلْدَانِ، قُبِلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ مَا قَالَهُ.

[فَصْلٌ يَثْبُتُ حَدُّ شُرْبِ الْخَمْرِ بِالْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ]

(٧٣٤٤) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ حَتَّى يَثْبُتَ شُرْبُهُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ؛ الْإِقْرَارِ أَوْ الْبَيِّنَةِ. وَيَكْفِي فِي الْإِقْرَارِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ لَا يَتَضَمَّنُ إتْلَافًا، فَأَشْبَهَ حَدَّ الْقَذْفِ. وَإِذَا رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ قُبِلَ رُجُوعُهُ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، فَقُبِلَ رُجُوعُهُ عَنْهُ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ. وَلَا يُعْتَبَرُ مَعَ الْإِقْرَارِ وُجُودُ رَائِحَةٍ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لَا حَدَّ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ تُوجَدَ رَائِحَةٌ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ بَيِّنَتَيْ الشُّرْبِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ

<<  <  ج: ص:  >  >>