للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ ثَوْبِهِ وَثَوْبِ غَيْرِهِ عِنْدَ اخْتِلَاطِهِمَا، وَلَا بَيْنَ نَعْلِهِ وَنَعْلِ غَيْرِهِ. وَنَحْوُ هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَزَعَمَ أَبُو حَنِيفَةَ، أَنَّ السَّكْرَانَ هُوَ الَّذِي لَا يَعْرِفُ السَّمَاءَ مِنْ الْأَرْضِ، وَلَا الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ.

وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: ٤٣] . نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَدَّمُوا رَجُلًا مِنْهُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَصَلَّى بِهِمْ، وَتَرَكَ فِي قِرَاءَتِهِ مَا غَيَّرَ الْمَعْنَى وَقَدْ كَانُوا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ عَالِمِينَ بِهَا، وَعَرَفُوا إمَامَهُمْ وَقَدَّمُوهُ لِيَؤُمَّهُمْ، وَقَصَدَ إمَامَتَهُمْ، وَالْقِرَاءَةَ لَهُمْ، وَقَصَدُوا الِائْتِمَامَ بِهِ، وَعَرَفُوا أَرْكَانَ الصَّلَاةِ، فَأَتَوْا بِهَا، وَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ، فَهُوَ سَكْرَانُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِسَكْرَانَ فَقَالَ: " مَا شَرِبْت؟ ". فَقَالَ: مَا شَرِبْت إلَّا الْخَلِيطَيْنِ وَأُتِيَ بِآخَرَ سَكْرَانَ، فَقَالَ: أَلَا أَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي مَا سَرَقْت، وَلَا زَنَيْت، فَهَؤُلَاءِ قَدْ عَرَفُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاعْتَذَرُوا إلَيْهِ، وَهُمْ سُكَارَى.

وَفِي حَدِيثِ حَمْزَةَ عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ غَنَّتْهُ قَيْنَةٌ وَهُوَ سَكْرَانُ:

أَلَا يَا حَمْزُ لِلشُّرُفِ النِّوَاءِ ... وَهُنَّ مُعَقَّلَاتٌ بِالْفِنَاءِ

وَكَانَ عَلِيٌّ أَنَاخَ شَارِفَيْنِ لَهُ بِفِنَاءِ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ حَمْزَةُ، فَقَامَ إلَيْهَا فَبَقَرَ بُطُونَهَا، وَاجْتَثَّ أَسْنِمَتَهَا، فَذَهَبَ عَلِيٌّ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا حَمْزَةُ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ، فَلَامَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَظَرَ إلَيْهِ وَإِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَقَالَ: وَهَلْ أَنْتُمْ إلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي، فَانْصَرَفَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَدْ فَهِمَ مَا قَالَتْ الْقَيْنَةُ فِي غِنَائِهَا، وَعَرَفَ الشَّارِفَيْنِ وَهُوَ فِي غَايَةِ سُكْرِهِ. وَلِأَنَّ الْمَجْنُونَ الذَّاهِبَ الْعَقْلِ بِالْكُلِّيَّةِ يَعْرِفُ السَّمَاءَ مِنْ الْأَرْضِ، وَالرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ، مَعَ ذَهَابِ عَقْلِهِ، وَرَفْعِ الْقَلَمِ عَنْهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>