للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ، أَوْ الْهَدْيِ، أَوْ جَعْلِ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ فِي الْمَسَاكِينِ، أَوْ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» . وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ، وَلِأَنَّهُ يَمِينٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: ٨٩] . وَدَلِيلُ أَنَّهُ يَمِينٌ، أَنَّهُ يُسَمَّى بِذَلِكَ، وَيُسَمَّى قَائِلُهُ حَالِفًا، وَفَارَقَ نَذْرَ التَّبَرُّرِ؛ لِكَوْنِهِ قَصَدَ بِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْبِرَّ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، وَهَا هُنَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ قُرْبَةً وَلَا بِرًّا، فَأَشْبَهَ الْيَمِينَ مِنْ وَجْهٍ وَالنَّذْرَ مِنْ وَجْهٍ، فَخُيِّرَ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِهِ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ.

وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، أَنَّهُ تَتَعَيَّنُ الْكَفَّارَةُ، وَلَا يُجْزِئُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ. وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ. وَالْأَوَّلُ أُولَى؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ فِعْلَ مَا نَذَرَهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهُ، كَنَذْرِ التَّبَرُّرِ. وَفَارَقَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ أَقْسَمَ بِالِاسْمِ الْمُحْتَرَمِ، فَاذًّا خَالَفَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، تَعْظِيمًا لِلِاسْمِ، بِخِلَافِ هَذَا.

[مَسْأَلَةٌ حَلَفَ بِالْعَهْدِ]

مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (أَوْ بِالْعَهْدِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالْعَهْدِ، أَوْ قَالَ: وَعَهْدِ اللَّهِ، وَكَفَالَتِهِ. فَذَلِكَ يَمِينٌ، يَجِبُ تَكْفِيرُهَا إذَا حَنِثَ فِيهَا. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَطَاوُسٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ. وَحَلَفَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِالْعَهْدِ أَنْ لَا تُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرَ، فَلَمَّا كَلَّمَتْهُ أَعْتَقَتْ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً، وَكَانَتْ إذَا ذَكَرَتْهُ تَبْكِي، وَتَقُولُ: وَاعْهَدَاهُ.

قَالَ أَحْمَدُ: الْعَهْدُ شَدِيدٌ فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء: ٣٤] . وَيَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - إذَا حَلَفَ بِالْعَهْدِ وَحَنِثَ، مَا اسْتَطَاعَ. وَعَائِشَةُ أَعْتَقَتْ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً، ثُمَّ تَبْكِي حَتَّى تَبُلَّ خِمَارَهَا، وَتَقُولُ: وَاعْهَدَاهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْيَمِينَ بِعَهْدِ اللَّهِ، الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِيَمِينٍ. وَلَعَلَّهمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْعَهْدَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، فَلَا يَكُونُ الْحَلِفُ بِهِ يَمِينًا، كَمَا لَوْ قَالَ: وَخَلْقِ اللَّهِ. وَقَدْ وَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَنَّهُ إذَا قَالَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ لَأَفْعَلَنَّ. ثُمَّ حَنِثَ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ. وَلَنَا، أَنَّ عَهْدَ اللَّهِ يَحْتَمِلُ كَلَامَهُ الَّذِي أَمَرَنَا بِهِ وَنَهَانَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} [يس: ٦٠] .

وَكَلَامُهُ قَدِيمٌ صِفَةٌ لَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ اسْتِحْقَاقُهُ لِمَا تَعَبَّدَنَا بِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ لَهُ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا بِإِطْلَاقِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: وَكَلَامِ اللَّهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ قَالَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ لَأَفْعَلَنَّ. أَوْ قَالَ: وَعَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ لَأَفْعَلَنَّ. فَهُوَ يَمِينٌ،

<<  <  ج: ص:  >  >>