للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ: أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ فِي الْمُكَارِي الَّذِي هُوَ دَهْرُهُ فِي السَّفَرِ: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقْدَمَ فَيُقِيمَ الْيَوْمَ. قِيلَ: فَيُقِيمُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي تَهَيُّئِهِ لِلسَّفَرِ. قَالَ: هَذَا يَقْصُرُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْقَصْرُ كَالْمَلَّاحِ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ مَشْفُوقٌ عَلَيْهِ، فَكَانَ لَهُ الْقَصْرُ كَغَيْرِهِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْمَلَّاحِ؛ فَإِنَّ الْمَلَّاحَ فِي مَنْزِلِهِ سَفَرًا وَحَضَرَا، وَمَعَهُ مَصَالِحُهُ وَتَنُّورُهُ وَأَهْلُهُ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ.

وَإِنْ سَافَرَ هَذَا بِأَهْلِهِ كَانَ أَشَقَّ عَلَيْهِ، وَأَبْلَغَ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّرَخُّصِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا نَصَّ أَحْمَدَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَالنُّصُوصُ مُتَنَاوِلَةٌ لِهَذَا بِعُمُومِهَا، وَلَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَى الْمَخْصُوصِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ حُكْمِ النَّصِّ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[مَسْأَلَةٌ لَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ فِي وَقْتِ دُخُولِهِ إلَى الصَّلَاةِ]

(١٢٤٥) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ لَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ فِي وَقْتِ دُخُولِهِ إلَى الصَّلَاةِ لَمْ يَقْصُرْ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ نِيَّةَ الْقَصْرِ شَرْطٌ فِي جَوَازِهِ، وَيُعْتَبَرُ وُجُودُهَا عِنْدَ أَوَّلِ الصَّلَاةِ، كَنِيَّةِ الصَّلَاةِ. وَهَذَا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا تُشْتَرَطُ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ مَنْ خُيِّرَ فِي الْعِبَادَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا خُيِّرَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا، كَالصَّوْمِ، وَلِأَنَّ الْقَصْرَ هُوَ الْأَصْلُ؛ بِدَلِيلِ خَبَرِ عَائِشَةَ، وَعُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ، كَالْإِتْمَامِ فِي الْحَضَرِ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِتْمَامَ هُوَ الْأَصْلُ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَسْأَلَةِ " وَلِلْمُسَافِرِ أَنْ يَقْصُرَ وَلَهُ أَنْ يُتِمَّ "، وَإِطْلَاقُ النِّيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَصْلِ، وَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ إلَّا بِتَعْيِينِ مَا يَصْرِفُهُ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ نَوَى الصَّلَاةَ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَنْوِ إمَامًا وَلَا مَأْمُومًا، فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الِانْفِرَادِ، إذْ هُوَ الْأَصْلُ.

وَالتَّفْرِيعُ يَقَعُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَلَوْ شَكَّ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ، هَلْ نَوَى الْقَصْرَ فِي ابْتِدَائِهَا أَوْ لَا، لَزِمَهُ إتْمَامُهَا احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا، فَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَوَى الْقَصْرَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، فَلَمْ يَزُلْ. وَلَوْ نَوَى الْإِتْمَامَ، أَوْ ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ، فَفَسَدَتْ الصَّلَاةُ، وَأَرَادَ إعَادَتَهَا، لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ تَامَّةً بِتَلَبُّسِهِ بِهَا خَلْفَ الْمُقِيمِ، وَنِيَّةِ الْإِتْمَامِ.

وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: إذَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ عَادَ الْمُسَافِرُ إلَى حَالِهِ. وَلَنَا، أَنَّهَا وَجَبَتْ بِالشُّرُوعِ فِيهَا تَامَّةً، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ قَصْرُهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَفْسُدْ.

[فَصْلٌ نَوَى الْقَصْرَ ثُمَّ نَوَى الْإِتْمَامَ]

(١٢٤٦) فَصْلٌ: وَمِنْ نَوَى الْقَصْرَ، ثُمَّ نَوَى الْإِتْمَامَ، أَوْ نَوَى مَا يَلْزَمُهُ بِهِ الْإِتْمَامُ مِنْ الْإِقَامَةِ، أَوْ قَلَبَ نِيَّتَهُ إلَى سَفَرِ مَعْصِيَةٍ، أَوْ نَوَى الرُّجُوعَ عَنْ سَفَرِهِ، وَمَسَافَةُ رُجُوعِهِ لَا يُبَاحُ فِيهِ الْقَصْرُ، وَنَحْوُ هَذَا لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَلَزِمَ مَنْ خَلْفَهُ مُتَابَعَتُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ: مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِتْمَامُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى عَدَدًا، فَإِذَا زَادَ عَلَيْهِ، حَصَلَتْ الزِّيَادَةُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>