للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذَا التَّفْرِيعُ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمُعَيَّنَةَ مِمَّا لَا يَمْنَعُ إخْرَاجَ زَكَاتِهِ فِي بَلَدِ رَبِّ الْمَالِ؛ إمَّا لِقُرْبِهِ، أَوْ لِكَوْنِ الْبَلَدِ لَا يُوجَدُ فِيهِ أَهْلُ السَّهْمَانِ، أَوْ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِإِخْرَاجِهَا فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ مِنْ بَلَدِ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ مُوَرِّثٌ غَائِبٌ فَقَالَ: إنْ كَانَ مُوَرِّثِي قَدْ مَاتَ، فَهَذِهِ زَكَاةُ مَالِهِ الَّذِي وَرِثْته مِنْهُ، فَبَانَ مَيِّتًا، لَمْ يُجْزِئْهُ مَا أَخْرَجَ؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لَيْلَةَ الشَّكِّ: إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ فَرْضِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ نَفْلٌ.

[مَسْأَلَةُ نِيَّة الزَّكَاة]

(١٧٦١) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إلَّا أَنْ يَأْخُذَهَا الْإِمَامُ مِنْهُ قَهْرًا) . مُقْتَضَى كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ الْإِنْسَانَ مَتَى دَفَعَ زَكَاتَهُ طَوْعًا لَمْ تُجْزِئْهُ إلَّا بِنِيَّةٍ، سَوَاءٌ دَفَعَهَا إلَى الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنْ أَخَذَهَا الْإِمَامُ مِنْهُ قَهْرًا، أَجْزَأَتْ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ النِّيَّةِ فِي حَقِّهِ أَسْقَطَ وُجُوبَهَا عَنْهُ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَتَى أَخَذَهَا الْإِمَامُ أَجْزَأَتْ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، سَوَاءٌ أَخَذَهَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا.

وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ الْقَسْمِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى نِيَّةٍ، وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً فِي أَخْذِهَا، وَلِذَلِكَ يَأْخُذُهَا مِنْ الْمُمْتَنِعِ اتِّفَاقًا وَلَوْ لَمْ يُجْزِئْهُ لَمَّا أَخَذَهَا، أَوْ لَأَخَذَهَا ثَانِيًا وَثَالِثًا حَتَّى يَنْفَدَ مَالُهُ؛ لِأَنَّ أَخْذَهَا إنْ كَانَ لِإِجْزَائِهَا فَلَا يَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَ لِوُجُوبِهَا فَالْوُجُوبِ بَاقٍ بَعْدَ أَخْذِهَا.

وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ: أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِنِيَّةِ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ إمَّا وَكِيلُهُ، وَإِمَّا وَكِيلُ الْفُقَرَاءِ، أَوْ وَكِيلُهُمَا مَعًا، وَأَيَّ ذَلِكَ كَانَ فَلَا تُجْزِئُ نِيَّتُهُ عَنْ نِيَّةِ رَبِّ الْمَالِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ تَجِبُ لَهَا النِّيَّةُ، فَلَا تُجْزِئُ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْهُ مَعَ عَدَمِ الْإِجْزَاءِ حِرَاسَةً لِلْعِلْمِ الظَّاهِرِ كَالصَّلَاةِ يُجْبَرُ عَلَيْهَا لِيَأْتِيَ بِصُورَتِهَا، وَلَوْ صَلَّى بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يُجْزِئْهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَمَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: يُجْزِئُ عَنْهُ. أَيْ فِي الظَّاهِرِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِأَدَائِهَا ثَانِيًا، كَمَا قُلْنَا فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ يُطَالَبُ بِالشَّهَادَةِ، فَمَتَى أَتَى بِهَا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ظَاهِرًا، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ مُعْتَقِدًا صِحَّةَ مَا يَلْفِظُ بِهِ، لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ بَاطِنًا. قَالَ: وَقَوْلُ أَصْحَابِنَا: لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ.

مَعْنَاهُ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَتْلُ الَّذِي تَوَجَّهَ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ عِلْمِنَا بِحَقِيقَةِ تَوْبَتِهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ أَظْهَرَ إيمَانَهُ، وَقَدْ كَانَ دَهْرَهُ يُظْهِرُ إيمَانَهُ، وَيَسْتُرُ كُفْرَهُ، فَأَمَّا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهَا تَصِحُّ إذَا عُلِمَ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْإِنَابَةِ، وَصِدْقُ التَّوْبَةِ، وَاعْتِقَادُ الْحَقِّ وَمَنْ نَصَرَ قَوْلَ الْخِرَقِيِّ، قَالَ: إنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى الْمُمْتَنِعِ، فَقَامَتْ نِيَّتُهُ مَقَامَ نِيَّتِهِ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَالْمَجْنُونِ، وَفَارَقَ الصَّلَاةَ؛ فَإِنَّ النِّيَابَةَ فِيهَا لَا تَصِحُّ، فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ فَاعِلِهَا.

وَقَوْلُهُ: لَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِهِ وَكِيلًا لَهُ، أَوْ وَكِيلًا لِلْفُقَرَاءِ، أَوْ لَهُمَا. قُلْنَا: بَلْ هُوَ وَالٍ عَلَى الْمَالِكِ، وَأَمَّا

<<  <  ج: ص:  >  >>