للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِصَدَقَةٍ ثُمَّ مَاتَتْ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: قَدْ قَبِلَ اللَّهُ صَدَقَتَك، وَرَدَّهَا إلَيْكَ الْمِيرَاثُ.» وَهَذَا فِي مَعْنَى شِرَائِهَا. وَلِأَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يُمْلَكَ إرْثًا، صَحَّ أَنْ يُمْلَكَ ابْتِيَاعًا، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عُمَرُ، «أَنَّهُ قَالَ: حَمَلْت عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، وَظَنَنْت أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ، فَأَرَدْت أَنْ أَشْتَرِيَهُ، فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَا تَبْتَعْهُ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِك وَلَوْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ؛ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَإِنْ قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَنَعَهُ لِذَلِكَ. قُلْنَا: لَوْ كَانَتْ حَبِيسًا لَمَا بَاعَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ، وَلَا هَمَّ عُمَرُ بِشِرَائِهَا، بَلْ كَانَ يُنْكِرُ عَلَى الْبَائِعِ وَيَمْنَعُهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُقِرُّ عَلَى مُنْكَرٍ، فَكَيْفَ يَفْعَلُهُ، وَيُعِينُ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَنْكَرَ بَيْعَهَا، إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ الشِّرَاءَ، مُعَلِّلًا بِكَوْنِهِ عَائِدًا فِي الصَّدَقَةِ.

الثَّانِي، أَنَّنَا نَحْتَجُّ بِعُمُومِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى خُصُوصِ السَّبَبِ، فَإِنَّ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِك» أَيْ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ. وَالْأَخْذُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ التَّمَسُّكِ بِخُصُوصِ السَّبَبِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُ الشِّرَاءَ فَإِنَّ الْعَوْدَ فِي الصَّدَقَةِ ارْتِجَاعُهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَفَسْخٌ لِلْعَقْدِ، كَالْعَوْدِ فِي الْهِبَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ.» وَلَوْ وَهَبَ إنْسَانًا شَيْئًا، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ، جَازَ. قُلْنَا: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ ذَلِكَ جَوَابًا لِعُمَرَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ شِرَاءِ الْفَرَسِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لِلشِّرَاءِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مُجِيبًا لَهُ، وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ خُصُوصِ السَّبَبِ مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ؛ لِئَلَّا يَخْلُوَ السُّؤَالُ عَنْ الْجَوَابِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا جَاءَ الْمُصَدِّقُ فَادْفَعْ إلَيْهِ صَدَقَتَك، وَلَا تَشْتَرِهَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: ابْتَعْهَا فَأَقُولُ: إنَّمَا هِيَ لِلَّهِ.

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَشْتَرِ طَهُورَ مَالِكَ. وَلِأَنَّ فِي شِرَائِهِ لَهَا وَسِيلَةً إلَى اسْتِرْجَاعِ شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ يَسْتَحْيِ مِنْهُ، فَلَا يُمَاكِسُهُ فِي ثَمَنِهَا، وَرُبَّمَا رَخَّصَهَا لَهُ طَمَعًا فِي أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ صَدَقَةً أُخْرَى، وَرُبَّمَا عَلِمَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَبِعْهُ إيَّاهَا اسْتَرْجَعَهَا مِنْهُ أَوْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَبَ، كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهَا. وَهُوَ أَيْضًا ذَرِيعَةٌ إلَى إخْرَاجِ الْقِيمَةِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ.

أَمَّا حَدِيثُهُمْ فَنَقُولُ بِهِ، وَأَنَّهَا تَرْجِعُ إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّ النِّزَاعِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كُلُّ الْعُلَمَاء يَقُولُونَ: إذَا رَجَعَتْ إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ طَابَتْ لَهُ، إلَّا ابْنَ عُمَرَ وَالْحَسَنَ بْنَ حَيٍّ. وَلَيْسَ الْبَيْعُ فِي مَعْنَى الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ بِالْمِيرَاثِ حُكْمًا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَيْسَ

<<  <  ج: ص:  >  >>