للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فَصْلُ وُجُوب الزَّكَاةُ عَلَى الْفَوْر]

(١٨١٦) فَصْلٌ: وَتَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ إخْرَاجِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَالتَّمَكُّنِ مِنْهُ، إذَا لَمْ يَخْشَ ضَرَرًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ التَّأْخِيرُ مَا لَمْ يُطَالَبْ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ، فَلَا يَتَعَيَّنْ الزَّمَنُ الْأَوَّلُ لِأَدَائِهَا دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا لَا يَتَعَيَّنُ لِذَلِكَ مَكَانٌ دُونَ مَكَان.

وَلَنَا، أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ، وَلِذَلِكَ يَسْتَحِقُّ الْمُؤَخِّرُ لِلِامْتِثَالِ الْعِقَابَ، وَلِذَلِكَ أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى إبْلِيسَ، وَسَخِطَ عَلَيْهِ وَوَبَّخَهُ، بِامْتِنَاعِهِ عَنْ السُّجُودِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ عَبْدَهُ أَنْ يَسْقِيَهُ، فَأَخَّرَ ذَلِكَ، اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ، وَلِأَنَّ جَوَازَ التَّأْخِيرِ يُنَافِي الْوُجُوبَ، لِكَوْنِ الْوَاجِبِ مَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ، وَلَوْ جَازَ التَّأْخِيرُ، لَجَازَ إلَى غَيْرِ غَايَةٍ، فَتَنْبَغِي الْعُقُوبَةُ بِالتَّرْكِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ، لَاقْتَضَاهُ فِي مَسْأَلَتِنَا، إذْ لَوْ جَازَ التَّأْخِيرُ هَاهُنَا لَأَخَّرَهُ بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ، ثِقَةً مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ، أَوْ بِتَلَفِ مَالِهِ، أَوْ بِعَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ، فَيَتَضَرَّرَ الْفُقَرَاءُ.

وَلِأَنَّ هَاهُنَا قَرِينَةً تَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ

لِحَاجَةِ

الْفُقَرَاءِ، وَهِيَ نَاجِزَةٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ، نَاجِزًا وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَكَرَّرُ، فَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهَا إلَى وَقْتِ وُجُوبِ مِثْلِهَا، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَحُولُ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ، فَيُؤَخِّرُ عَنْ وَقْتِ الزَّكَاةِ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَمْ يُؤَخِّرُ إخْرَاجَهَا؟ وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ. قِيلَ: فَابْتَدَأَ فِي إخْرَاجِهَا، فَجَعَلَ يُخْرِجُ أَوَّلًا فَأَوَّلًا.

فَقَالَ: لَا، بَلْ يُخْرِجُهَا كُلَّهَا إذَا حَالَ الْحَوْلُ. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ عَلَيْهِ مَضَرَّةٌ فِي تَعْجِيلِ الْإِخْرَاجِ، مِثْلُ مَنْ يَحُولُ حَوْلُهُ قَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي، وَيَخْشَى إنْ أَخْرَجَهَا بِنَفْسِهِ أَخَذَهَا السَّاعِي مِنْهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَهُ تَأْخِيرُهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَكَذَلِكَ إنْ خَشِيَ فِي إخْرَاجِهَا ضَرَرًا فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالٍ لَهُ سِوَاهَا، فَلَهُ تَأْخِيرُهَا؛؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ تَأْخِيرُ قَضَاءِ دَيْنِ الْآدَمِيِّ لِذَلِكَ، فَتَأْخِيرُ الزَّكَاةِ أَوْلَى.

[فَصْلُ أَخَّرَ الزَّكَاة لِيَدْفَعهَا إلَى مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهَا]

(١٨١٧) فَصْلٌ: فَإِنْ أَخَّرَهَا لِيَدْفَعَهَا إلَى مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهَا، مِنْ ذِي قَرَابَةٍ، أَوْ ذِي حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ، فَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا، فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، لَمْ يَجُزْ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُجْزِئُ عَلَى أَقَارِبِهِ مِنْ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ شَهْرٍ. يَعْنِي لَا يُؤَخِّرُ إخْرَاجَهَا حَتَّى يَدْفَعَهَا إلَيْهِمْ مُتَفَرِّقَةً، فِي كُلِّ شَهْرٍ شَيْئًا، فَأَمَّا إنْ عَجَّلَهَا فَدَفَعَهَا إلَيْهِمْ، أَوْ إلَى غَيْرِهِمْ مُتَفَرِّقَةً أَوْ مَجْمُوعَةً، جَازَ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالَانِ، أَوْ أَمْوَالٌ، زَكَاتُهَا وَاحِدَةٌ، وَتَخْتَلِفُ أَحْوَالُهَا، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نِصَابٌ، وَقَدْ اسْتَفَادَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ مِنْ جِنْسِهِ دُونَ النِّصَابِ، لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الزَّكَاةِ لِيَجْمَعَهَا كُلَّهَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ جَمْعُهَا بِتَعْجِيلِهَا فِي أَوَّلِ وَاجِبٍ مِنْهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>