للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} أَيْ: فِي الدُّنْيَا، بِأَنْ يُسَلَّطُوا عَلَيْهِمُ اسْتِيلَاءَ اسْتِئْصَالٍ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ ظَفَرٌ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ. يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ] (١) } [غَافِرٍ: ٥١، ٥٢] . وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ رَدًّا عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِيمَا أَمَلَوْهُ وَتَرَبَّصُوهُ (٢) وَانْتَظَرُوهُ مِنْ زَوَالِ دَوْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِيمَا سَلَكُوهُ مِنْ مُصَانَعَتِهِمُ الْكَافِرِينَ، خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ إِذَا هُمْ ظَهَرُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَاسْتَأْصَلُوهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ [يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ] (٣) نَادِمِينَ} [الْمَائِدَةِ: ٥٢] .

وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ (٤) بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ لِمَا فِي صِحَّةِ ابْتِيَاعِهِ مِنَ التَّسْلِيطِ لَهُ عَلَيْهِ وَالْإِذْلَالِ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِالصِّحَّةِ يَأْمُرُهُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ فِي الْحَالِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا}

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا (١٤٣) }

قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [الْبَقَرَةِ: ٩] وَقَالَ هَاهُنَا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُخَادَعُ، فَإِنَّهُ الْعَالِمُ بِالسَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ، وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعَقْلِهِمْ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَمْرَهُمْ كَمَا رَاجَ عِنْدَ النَّاسِ وجَرَت عَلَيْهِمْ أحكامُ الشَّرِيعَةِ ظَاهِرًا، فَكَذَلِكَ (٥) يَكُونُ حُكْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّ أَمْرَهُمْ يَرُوجُ عِنْدَهُ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْلِفُونَ لَهُ: أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالسَّدَادِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ نَافِعٌ لَهُمْ عِنْدَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ] (٦) } [الْمُجَادَلَةِ: ١٨] .

وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أَيْ: هُوَ الَّذِي يَسْتَدْرِجُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَيَخْذُلُهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ. يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ] (٧) وَبِئْسَ الْمَصِيرُ


(١) زيادة من ر أ، وفي هـ: "الآية".
(٢) في ر: "ويرجوه".
(٣) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "إلى قوله".
(٤) في ر، أ: "الفقهاء".
(٥) في ر: "فلذلك".
(٦) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(٧) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "إلى قوله".

<<  <  ج: ص:  >  >>