للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٥) }

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَأَنَّهُ لَا مُعقِّب لِحُكْمِهِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى صَرْفِ حُكْمِهِ عَنْ خَلْقِهِ، بَلْ هُوَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي إِذَا سُئِلَ يُجِيبُ لِمَنْ يَشَاءُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} أَيْ: أَتَاكُمْ هَذَا أَوْ هَذَا (١) {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ: لَا تَدْعُونَ غَيْرَهُ لِعِلْمِكُمْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِ ذلك سواه؛ ولهذا قال: إن {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ: فِي اتِّخَاذِكُمْ آلِهَةً مَعَهُ.

{بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} أَيْ: فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ لَا تَدْعُونَ أَحَدًا سِوَاهُ وَتَذْهَبُ عَنْكُمْ أَصْنَامُكُمْ وَأَنْدَادُكُمْ كَمَا قَالَ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} الْآيَةَ [الْإِسْرَاءِ: ٦٧] .

وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} يَعْنِي: الْفَقْرَ وَالضِّيقَ فِي الْعَيْشِ {وَالضَّرَّاءِ} وَهِيَ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ وَالْآلَامُ {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} أَيْ: يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ وَيَخْشَعُونَ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} أَيْ: فَهَلَّا إِذِ ابْتَلَيْنَاهُمْ بِذَلِكَ تَضَرَّعُوا إِلَيْنَا وَتَمَسْكَنُوا إِلَيْنَا (٢) {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أَيْ: مَا رَقَّتْ وَلَا خَشَعَتْ {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أَيْ: مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي.

{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أَيْ: أَعْرَضُوا عَنْهُ وَتَنَاسَوْهُ وَجَعَلُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} أَيْ: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الرِّزْقِ مِنْ كُلِّ مَا يَخْتَارُونَ، وَهَذَا (٣) اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ تَعَالَى وَإِمْلَاءٌ لَهُمْ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ مَكْرِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} أَيْ: مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَرْزَاقِ {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} أَيْ: عَلَى غَفْلَةٍ {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} أَيْ: آيِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ.

قَالَ الْوَالِبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُبْلِسُ: الْآيِسُ.

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَنْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَمْكُرُ بِهِ، فَلَا رَأْيَ لَهُ. وَمَنْ قَتَر عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَنْظُرُ لَهُ، فَلَا رَأْيَ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} قَالَ الْحَسَنُ: مَكَرَ بِالْقَوْمِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ؛ أُعْطُوا حَاجَتَهُمْ ثُمَّ أُخِذُوا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: بَغَت القومَ أمرُ اللَّهِ، وَمَا أَخَذَ اللَّهُ قَوْمًا قَطُّ إِلَّا عِنْدَ سَكْرَتِهِمْ وَغَرَّتِهِمْ وَنَعِيمِهِمْ (٤) فَلَا تَغْتَرُّوا بِاللَّهِ، إِنَّهُ لَا يَغْتَرُّ بِاللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا.

وَقَالَ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} قَالَ: إِرْخَاءُ (٥) الدُّنْيَا وَسَتْرُهَا.

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ غَيْلان، حَدَّثَنَا رِشْدِين -يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ أَبَا الْحَجَّاجِ الْمَهْرِيَّ -عَنْ حَرْمَلَة بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبي، عَنْ عُقْبة بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي العبدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعاصيه مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاج". ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}


(١) في أ: "وهذا".
(٢) في أ: "لدينا".
(٣) في أ: "وهو".
(٤) في أ: "ونعمتهم".
(٥) في أ: "أرجاء"

<<  <  ج: ص:  >  >>