للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَغَيْرُهُمْ، مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَهُوَ إِمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ. وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ إِلَى أَذْهَانِ الْمُشَبِّهِينَ مَنْفِيٌّ عَنِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشُّورَى:١١] بَلِ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ -مِنْهُمْ نُعَيْم بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ -: "مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ". وَلَيْسَ فِيمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولَهُ تَشْبِيهٌ، فَمَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى مَا وَرَدَتْ بِهِ الْآيَاتُ الصَّرِيحَةُ وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَفَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى النَّقَائِصَ، فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الْهُدَى.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} أَيْ: يَذْهَبُ ظَلَامُ هَذَا بِضِيَاءِ هَذَا، وَضِيَاءُ هَذَا بِظَلَامِ هَذَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْآخَرَ طَلَبًا حَثِيثًا، أَيْ: سَرِيعًا لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، بَلْ إِذَا ذَهَبَ هَذَا جَاءَ هَذَا، وَإِذَا جَاءَ هَذَا ذَهَبَ هَذَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:٣٧-٤٠] فَقَوْلُهُ: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أَيْ: لَا يَفُوتُهُ بِوَقْتٍ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، بَلْ هُوَ فِي أَثَرِهِ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} -مِنْهُمْ مَنْ نَصَبَ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَفَعَ، وَكِلَاهُمَا قَرِيبُ الْمَعْنَى، أَيِ: الْجَمِيعُ تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَسْخِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ منَبِّها: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ} ؟ أَيْ: لَهُ الْمُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ، {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} كَمَا قَالَ [تَعَالَى] (١) {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا] } (٢) [الْفُرْقَانِ: ٦١] .

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا بَقِيِّة بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الشَّامِيِّ، عَنْ أَبِيهِ -وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ -قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "من لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ عَلَى مَا عَمِلَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ، فَقَدْ كَفَرَ وَحَبِطَ عَمَلُهُ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعِبَادِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْئًا، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ؛ لِقَوْلِهِ: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (٣)

وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -وَرَوِيَ مَرْفُوعًا -: "اللَّهُمَّ لَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَلَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ يَرْجِعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ" (٤)

{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) }

أرشد [سبحانه و] (٥) تعالى عِبَادَهُ إِلَى دُعَائِهِ، الَّذِي هُوَ صَلَاحُهُمْ فِي دنياهم وأخراهم، فقال تعالى:


(١) زيادة من ك.
(٢) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٣) تفسير الطبري (١٢/٤٨٤) .
(٤) سبق الكلام على هذا الأثر، وذكر وجوه رفعه عند الآية: ٢ من سورة الفاتحة.
(٥) زيادة من أ.

<<  <  ج: ص:  >  >>