للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ} قَالَ: فَقِيهٌ.

قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَمُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّه الدعَّاء، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلسِّيَاقِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ إِنَّمَا اسْتَغْفَرَ لِأَبِيهِ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ، وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ كَثِيرَ الدُّعَاءِ حَلِيمًا عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَأَنَالَهُ مَكْرُوهًا؛ وَلِهَذَا اسْتَغْفَرَ لِأَبِيهِ مَعَ شِدَّةِ أَذَاهُ (١) فِي قَوْلِهِ: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مَرْيَمَ: ٤٦، ٤٧] ، فَحَلُمَ عَنْهُ مَعَ أَذَاهُ لَهُ، وَدَعَا لَهُ وَاسْتَغْفَرَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} (٢)

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) }

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَحُكْمِهِ الْعَادِلِ: إِنَّهُ لَا يُضِلُّ قَوْمًا بَعْدَ بَلَاغِ (٣) الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ، حَتَّى يَكُونُوا قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} الْآيَةَ [فُصِّلَتْ: ١٧] .

وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} قَالَ: بَيَانُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً، وَفِي بَيَانِهِ طَاعَتَهُ وَمَعْصِيَتَهُ عَامَّةً، فَافْعَلُوا أَوْ ذَروا.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَقْضِيَ عَلَيْكُمْ فِي اسْتِغْفَارِكُمْ لِمَوْتَاكُمُ الْمُشْرِكِينَ بِالضَّلَالِ بَعْدَ إِذْ رَزَقَكُمُ الْهِدَايَةَ وَوَفَّقَكُمْ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، حَتَّى يَتَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فَتَتْرُكُوا، فَأَمَّا قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ كَرَاهِيَتَهُ (٤) ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، ثُمَّ تَتَعَدَّوْا نَهْيَهُ إِلَى مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَا يَحْكُمُ عَلَيْكُمْ بِالضَّلَالِ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ إِنَّمَا يَكُونَانِ مِنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤمَر وَلَمْ يُنْهَ فَغَيْرُ كَائِنٍ مُطِيعًا أَوْ عَاصِيًا فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ.

وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هَذَا تَحْرِيضٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَمُلُوكِ الْكُفْرِ، وَأَنْ (٥) يَثِقُوا بِنَصْرِ اللَّهِ مَالِكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَمْ يَرْهَبُوا مِنْ أَعْدَائِهِ فَإِنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهُمْ مِنْ دون الله، ولا نصير لهم


(١) في ك: "أذاه له".
(٢) تفسير الطبري (١٤/٥٣٢) .
(٣) في ت: "إبلاغ".
(٤) في ت: "كراهية".
(٥) في ت، ك: "وأنهم".

<<  <  ج: ص:  >  >>