للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْقُرْآنُ، {يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ} جَمْعُ ذَقْن، وَهُوَ أَسْفَلُ الْوَجْهِ {سُجَّدًا} أَيْ: لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، شُكْرًا عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، مِنْ جَعْلِهِ إِيَّاهُمْ أَهْلًا إِنْ أَدْرَكُوا هَذَا الرَّسُولَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ [هَذَا] (١) الْكِتَابُ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: {سُبْحَانَ رَبِّنَا} أَيْ: تَعْظِيمًا وَتَوْقِيرًا عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ الَّذِي وَعَدَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ [الْمُتَقَدِّمِينَ عَنْ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا} ] (٢) .

وَقَوْلُهُ: {وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ} أَيْ: خُضُوعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِيمَانًا وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ، وَيَزِيدُهُمُ اللَّهُ خُشُوعًا، أَيْ: إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا كَمَا قَالَ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [مُحَمَّدٍ: ١٧] .

وَقَوْلُهُ: {وَيَخِرُّونَ} عَطْفُ صِفَةٍ عَلَى صِفَةٍ لَا عَطْفُ سُجُودٍ عَلَى سُجُودٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

إلَى المَلك القَرْم وَابْنِ الهُمام ... وَلَيْث الكَتِيبَة في المُزْدَحَمْ ...

{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (١١١) } .

يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ صِفَةَ الرَّحْمَةِ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، الْمَانِعِينَ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِالرَّحْمَنِ: {ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} أَيْ: لَا فَرْقَ بَيْنَ دُعَائِكُمْ لَهُ بِاسْمِ "اللَّهِ" أَوْ بِاسْمِ (٣) " الرَّحْمَنِ "، فَإِنَّهُ ذُو الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} إِلَى أَنْ قَالَ: {لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الْحَشْرِ: ٢٢ -٢٤] .

وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ (٤) أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: "يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ"، فَقَالَ: إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَدْعُو وَاحِدًا، وَهُوَ يَدْعُو اثْنَيْنِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ.

وَقَوْلُهُ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} الْآيَةَ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:

حَدَّثَنَا هُشَيْم، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ (٥) سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ (٦) هَذِهِ الْآيَةُ وَهُوَ مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا [وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا] } (٧) قَالَ: كَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَسَبُّوا مَنْ أَنْزَلَهُ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ. قَالَ: فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أَيْ: بِقِرَاءَتِكَ فيسمع المشركون فيسبوا القرآن


(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من ت، ف.
(٣) في ت: "واسم".
(٤) تفسير الطبري (١٥/١٢١) وكأن الحافظ اختصره هنا.
(٥) في ف: "حدثنا".
(٦) في ت: "قرأت".
(٧) زيادة من أ.

<<  <  ج: ص:  >  >>