للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: ٤٥، ٤٦] أَيْ: يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ رَبِّهِ فِي مَهْدِهِ (١) وَكُهُولَتِهِ.

قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -دُحَيْم-حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ الْحَارِثِ الْكُوفِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَتْ مَرْيَمُ، عَلَيْهَا السَّلَامُ: كُنْتُ إِذَا خَلَوْتُ حَدَّثَنِي عِيسَى وَكَلَّمَنِي وَهُوَ فِي بَطْنِي وَإِذَا كُنْتُ مَعَ النَّاسِ سَبَّحَ فِي بَطْنِي وَكَبَّرَ.

وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ جِبْرِيلَ لِمَرْيَمَ، يُخْبِرُهَا أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُقَدَّرٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهُ وَمَشِيئَتِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَبَرِ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ كَنَّى بِهَذَا عَنِ النَّفْخِ فِي فَرْجِهَا، كما قال تَعَالَى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التَّحْرِيمِ: ١٢] وَقَالَ {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الْأَنْبِيَاءِ: ٩١]

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} أَيْ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَزَمَ عَلَى هَذَا، فَلَيْسَ مِنْهُ بُدٌّ، وَاخْتَارَ هَذَا أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (٢٢) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (٢٣) }

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مَرْيَمَ أَنَّهَا لَمَّا قَالَ لَهَا جِبْرِيلُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مَا قَالَ، إِنَّهَا اسْتَسْلَمَتْ لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى (٢) فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ أَنَّ الْمَلَكَ -وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ-عِنْدَ ذَلِكَ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ حَتَّى وَلَجَتْ فِي الْفَرْجِ، فَحَمَلَتْ بِالْوَلَدِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. فَلَمَّا حَمَلَتْ بِهِ ضَاقَتْ ذَرْعًا بِهِ (٣) وَلَمْ تَدْرِ مَاذَا تَقُولُ (٤) لِلنَّاسِ، فَإِنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ لَا يُصَدِّقُونَهَا فِيمَا تُخْبِرُهُمْ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهَا أَفْشَتْ سِرَّهَا وَذَكَرَتْ أَمْرَهَا لِأُخْتِهَا امْرَأَةِ زَكَرِيَّا. وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ قَدْ سَأَلَ اللَّهَ الْوَلَدَ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، فَحَمَلَتِ امْرَأَتُهُ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهَا مَرْيَمُ فَقَامَتْ إِلَيْهَا فَاعْتَنَقَتْهَا، وَقَالَتْ: أَشَعَرْتِ يَا مَرْيَمُ أَنِّي حُبْلَى؟ فَقَالَتْ لَهَا مَرْيَمُ: وَهَلْ عَلِمْتِ أَيْضًا أَنِّي حُبْلَى؟ وَذَكَرَتْ لَهَا شَأْنَهَا وَمَا كَانَ مِنْ خَبَرِهَا وَكَانُوا بَيْتَ إِيمَانٍ وَتَصْدِيقٍ، ثُمَّ كَانَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا وَاجَهَتْ (٥) مَرْيَمَ تَجِدُ الَّذِي فِي جَوْفِهَا (٦) يَسْجُدُ لِلَّذِي فِي بَطْنِ مَرْيَمَ، أَيْ: يُعَظِّمُهُ وَيَخْضَعُ لَهُ، فَإِنَّ السُّجُودَ كَانَ فِي مِلَّتِهِمْ عِنْدَ السَّلَامِ مَشْرُوعًا، كَمَا سَجَدَ لِيُوسُفَ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ، وَكَمَا أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ تَسْجُدَ (٧) لِآدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَكِنْ حُرِّمَ فِي مِلَّتِنَا هَذِهِ تَكْمِيلًا لِتَعْظِيمِ جَلَالِ الرَّبِّ تَعَالَى.

قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: قُرِئَ عَلَى الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ وَأَنَا أَسْمَعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنَ


(١) في ت، أ: "المهد".
(٢) في ت: "الله عز وجل".
(٣) في أ: "بهما".
(٤) في ت: "يقول".
(٥) في أ: "وجهت".
(٦) في ف: "بطنها".
(٧) في ف، أ: "يسجدوا".

<<  <  ج: ص:  >  >>