للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ رَأَيْتَ نَعِيمًا قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا [وَاللَّهِ يَا رَبِّ] (١) . وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا كَانَ فِي الدُّنْيَا، فَيُصْبَغُ فِي الْجَنَّةِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ" أَيْ: مَا كَأَنَّ شَيْئًا كَانَ (٢) ؛ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ:

كأنَّك لَمْ تُوتِر مِنَ الدّهْر لَيْلَةً ... إِذَا أنْتَ أدْرَكْتَ الَّذِي كنتَ تَطْلُبُ ...

ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَدْلِهِ فِي خُلُقِهِ: أنَّه مَا أَهْلَكَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ، وَالْإِنْذَارِ لَهُمْ وَبِعْثَةِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ وَقِيَامِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ. ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الْإِسْرَاءِ:١٥] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا (٣) ] وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [الْقَصَصِ:٥٩] .

{وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (٢١٠) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) }

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ: أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ الْمُؤَيَّدُ مِنَ اللَّهِ، {وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَا (٤) يَنْبَغِي لَهُمْ، أَيْ: لَيْسَ هُوَ مِنْ بُغْيتهم وَلَا مِنْ طِلْبَتِهِمْ؛ لِأَنَّ مِنْ سَجَايَاهُمُ الْفَسَادَ وَإِضْلَالَ الْعِبَادِ، وَهَذَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَنُورٌ وَهُدًى وَبُرْهَانٌ عَظِيمٌ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيَاطِينِ مُنَافَاةٌ عَظِيمَةٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} .

وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أَيْ: وَلَوِ انْبَغَى لَهُمْ لَمَا اسْتَطَاعُوا ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الْحَشْرِ:٢١] .

ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَوِ انْبَغَى (٥) لَهُمْ وَاسْتَطَاعُوا حَمْلَهُ وَتَأْدِيَتَهُ، لَمَا وَصَلُوا إِلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ حَالَ نُزُولِهِ؛ لِأَنَّ السَّمَاءَ مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا فِي مُدّة إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى رَسُولِهِ، فَلَمْ يَخْلُصْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ إِلَى اسْتِمَاعِ حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْهُ، لِئَلَّا يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ. وَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ، وَحِفْظِهِ لِشَرْعِهِ، وَتَأْيِيدِهِ لِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الْجِنِّ:٨-١٠] .

{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) }


(١) زيادة من ف، أ، والمسند.
(٢) رواه أحمد في مسنده (٣/٢٠٣) مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(٣) زيادة من ف، أ. وفي هـ: "إلى قوله".
(٤) في ف: "لا".
(٥) في ف: "ابتغى".

<<  <  ج: ص:  >  >>