للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جَاءُوا بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَا اعْتَنَى بِهِ، بَلْ أعرض عنه، وقال منكرًا عليهم: {أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ} أَيْ: أَتُصَانِعُونَنِي بِمَالٍ لِأَتْرُكَكُمْ عَلَى شِرْكِكُمْ وَمُلْكِكُمْ؟! {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} أَيِ: الَّذِي أَعْطَانِي اللَّهُ مِنَ الْمُلْكِ وَالْمَالِ وَالْجُنُودِ خَيْرٌ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} أَيْ: أَنْتُمُ الَّذِينَ (١) تَنْقَادُونَ لِلْهَدَايَا وَالتُّحَفِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَقْبَلُ مِنْكُمْ إِلَّا الْإِسْلَامَ أَوِ السَّيْفَ.

قَالَ الْأَعْمَشِ، عَنِ المِنْهَال بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَرَ سُلَيْمَانُ الشَّيَاطِينَ فَمَوَّهُوا لَهُ أَلْفَ قَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ. فَلَمَّا رَأَتْ رُسُلُهَا ذَلِكَ قَالُوا: مَا يَصْنَعُ هَذَا بِهَدِيَّتِنَا. وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ تَهَيُّؤِ الْمُلُوكِ وَإِظْهَارِهِمُ الزِّينَةَ لِلرُّسُلِ وَالْقُصَّادِ.

{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} أَيْ: بِهَدِيَّتِهِمْ، {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أَيْ: لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِقِتَالِهِمْ، {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا} أَيْ: مِنْ بَلَدِهِمْ، {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} أَيْ: مُهَانُونَ مَدْحُورُونَ.

فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهَا رسلُها بِهَدِيَّتِهَا، وَبِمَا قَالَ سُلَيْمَانُ، سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ هِيَ وَقَوْمُهَا، وَأَقْبَلَتْ تَسِيرُ إِلَيْهِ فِي جُنُودِهَا خَاضِعَةً ذَلِيلَةً، مُعَظِّمَةً لِسُلَيْمَانَ، نَاوِيَةً مُتَابَعَتَهُ فِي الْإِسْلَامِ. وَلَمَّا تَحَقَّقَ سُلَيْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قُدُومَهُمْ عَلَيْهِ وَوُفُودَهُمْ إِلَيْهِ، فَرِحَ (٢) بِذَلِكَ وسَرّه.

{قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) } .

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَان قَالَ: فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهَا الرُّسُلُ بِمَا قَالَ سُلَيْمَانُ قَالَتْ: قَدْ -وَاللَّهِ -عرفتُ، مَا هَذَا بِمَلِكٍ، وَمَا لَنَا بِهِ مِنْ طَاقَةٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِمُكَاثَرَتِهِ (٣) شَيْئًا. وَبَعَثَتْ إِلَيْهِ: إِنِّي قَادِمَةٌ عَلَيْكَ بِمُلُوكِ قَوْمِي، لِأَنْظُرَ مَا أَمْرُكَ وَمَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِنْ دِينِكَ. ثُمَّ أَمَرَتْ بِسَرِيرِ مُلْكِهَا الَّذِي كَانَتْ تَجْلِسُ عَلَيْهِ -وَكَانَ مِنْ ذَهَبٍ مُفصَّص بِالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَاللُّؤْلُؤِ -فَجُعِلَ فِي سَبْعَةِ أَبْيَاتٍ، بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، ثُمَّ أَقْفَلَتْ عَلَيْهِ الْأَبْوَابَ، ثُمَّ قَالَتْ لِمَنْ خَلفت عَلَى سُلْطَانِهَا: احْتَفِظْ بِمَا قِبَلَكَ، وَسَرِيرِ مُلْكِي، فَلَا يَخْلُصُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَلَا يَرَينَّه أَحَدٌ حَتَّى آتِيَكَ. ثُمَّ شَخَصَت إِلَى سُلَيْمَانَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفِ قَيْل مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ، تَحْتَ يَدَيْ كُلِّ قَيْل مِنْهُمْ أُلُوفٌ كَثِيرَةٌ. فَجَعَلَ سُلَيْمَانُ يَبْعَثُ الْجِنَّ يَأْتُونَهُ بِمَسِيرِهَا وَمُنْتَهَاهَا كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، حَتَّى إِذَا دَنت جَمَعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، مِمَّنْ تَحْتَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} .

وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا بَلَغَ سُلَيْمَانَ أَنَّهَا جَائِيَةٌ، وَكَانَ قَدْ ذُكِرَ لَهُ عرشها فأعجبه، وكان من ذهب،


(١) في أ: "الذي".
(٢) في ف: "ففرح".
(٣) في هـ: "بمكابرته" والمثبت من ف، أ، والطبري (١٩/١٠٠) .

<<  <  ج: ص:  >  >>