للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} أَيْ: هَذَا الْمُقْبِلُ عَلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالطَّرَبِ، إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ، وَلَّى عَنْهَا وَأَعْرَضَ وَأَدْبَرَ وتَصَامّ وَمَا بِهِ مِنْ صَمَم، كَأَنَّهُ مَا يَسْمَعُهَا؛ لِأَنَّهُ يَتَأَذَّى بِسَمَاعِهَا، إِذْ لَا انْتِفَاعَ لَهُ بِهَا، وَلَا أرَبَ لَهُ فِيهَا، {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُؤْلِمُهُ، كَمَا تَأَلَّمَ بِسَمَاعِ كِتَابِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) } .

هَذَا ذِكْرُ مَآلِ الْأَبْرَارِ مِنَ السُّعَدَاءِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وصَدّقوا الْمُرْسَلِينَ، وَعَمِلُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الْمُتَابِعَةِ (١) لِشَرِيعَةِ اللَّهِ {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} أَيْ: يَتَنَعَّمُونَ فِيهَا بِأَنْوَاعِ الْمَلَاذِّ وَالْمَسَارِّ، مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمُشَارِبِ، وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ، وَالْمَرَاكِبِ وَالنِّسَاءِ، وَالنَّضْرَةِ وَالسَّمَاعِ الَّذِي لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ أَحَدٍ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُقِيمُونَ دَائِمًا فِيهَا، لَا يَظْعَنُونَ، وَلَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا.

وَقَوْلُهُ: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} أَيْ: هَذَا كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ؛ لِأَنَّهُ الْكَرِيمُ الْمَنَّانُ، الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، {وَهُوَ الْعَزِيزُ} ،الَّذِي قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، وَدَانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، {الْحَكِيمُ} ،فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، الَّذِي جَعَلَ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فُصِّلَتْ: ٤٤] ، {وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} [الْإِسْرَاءِ: ٨٢] .

{خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١) } .

يُبَيِّنُ سُبْحَانَهُ بِهَذَا قدرته العظيمة على خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} ، قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَيْسَ لَهَا عَمَد مَرْئِيَّةٌ وَلَا غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعكْرِمة، وَمُجَاهِدٌ: لَهَا عُمُدٌ لَا تَرَوْنَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ "الرَّعْدِ" بِمَا أَغْنَى (٢) عَنْ إِعَادَتِهِ.

{وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ} يَعْنِي: الْجِبَالُ أَرْسَتِ الْأَرْضَ وَثَقَّلَتْهَا لِئَلَّا تَضْطَرِبُ بِأَهْلِهَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ؛ ولهذا قال: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} أي: لئلا تميد بكم.

وقوله: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أَيْ: وَذَرَأَ فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْحَيَوَانَاتِ مِمَّا لَا يَعْلَمُ عدد أشكالها


(١) في ف: "التابعة" وفي أ "المتتابعة".
(٢) في ت: "بما يغني".

<<  <  ج: ص:  >  >>