للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَالَ الْحَسَنُ: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} يَعْنِي: مَوْتَهُ عَلَى الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} الْمَوْتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُبَدِّلْ (١) تَبْدِيلًا. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: {نَحْبَهُ} نَذْرَهُ.

وَقَوْلُهُ: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} أَيْ: وَمَا غيَّروا عَهْدَهُمْ، وبدَّلوا الْوَفَاءَ بِالْغَدْرِ، بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلَى مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، وَمَا نَقَضُوهُ كَفِعْلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} ، {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ} (٢) .

وَقَوْلُهُ: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أَيْ: إِنَّمَا يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِالْخَوْفِ وَالزِّلْزَالِ لِيَمِيزَ (٣) الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فَيَظْهَرُ أَمْرُ هَذَا بِالْفِعْلِ، وَأَمْرُ هَذَا بِالْفِعْلِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ كَوْنِهِ، وَلَكِنْ لَا يُعَذِّبُ الْخَلْقَ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ، حَتَّى يَعْمَلُوا بِمَا يَعْلَمُهُ فِيهِمْ (٤) ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ (٥) الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ (٦) أَخْبَارَكُمْ} [مُحَمَّدٍ: ٣١] ، فَهَذَا عِلْمٌ بِالشَّيْءِ بَعْدَ (٧) كَوْنِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ (٨) السَّابِقُ حَاصِلًا بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ. وَكَذَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٩] . وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} أَيْ: بِصَبْرِهِمْ عَلَى مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، وَقِيَامِهِمْ بِهِ، وَمُحَافَظَتِهِمْ عَلَيْهِ. {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} : وَهُمُ النَّاقِضُونَ لِعَهْدِ اللَّهِ، الْمُخَالِفُونَ لِأَوَامِرِهِ، فَاسْتَحَقُّوا بِذَلِكَ عِقَابَهُ وَعَذَابَهُ، وَلَكِنْ هُمْ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ فِي الدُّنْيَا، إِنْ شَاءَ اسْتَمَرَّ بِهِمْ عَلَى مَا فَعَلُوا حَتَّى يَلْقَوْهُ بِهِ فَيُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ تَابَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أَرْشَدَهُمْ إِلَى النِّزُوعِ عَنِ النِّفَاقِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَعَمَلِ (٩) الصَّالِحِ بَعْدَ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ. وَلَمَّا كَانَتْ رَحْمَتُهُ وَرَأْفَتُهُ بِخَلْقِهِ هِيَ الْغَالِبَةُ لِغَضَبِهِ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} .

{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (٢٥) } .

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْأَحْزَابِ لَمَّا أَجْلَاهُمْ عَنِ الْمَدِينَةِ، بِمَا أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيحِ وَالْجُنُودِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَوْلَا أَنَّ جَعَلَ اللَّهُ رَسُولَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، لَكَانَتْ هَذِهِ الرِّيحُ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ مِنَ الرِّيحِ الْعَقِيمِ عَلَى عَادٍ، وَلَكِنْ قال الله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] } (١٠) [الْأَنْفَالِ: ٣٣] ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ هَوَاءً فَرَّقَ شَمْلَهُمْ، كَمَا كَانَ سَبَبُ اجْتِمَاعِهِمْ مِنَ الهَوَى، وَهُمْ أَخْلَاطٌ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى، أَحْزَابٍ وَآرَاءٍ، فَنَاسَبَ أَنْ يرسل عليهم الهواء الذي فرق


(١) في ت: "من بدل".
(٢) في ت: "وقد".
(٣) في ت: "فيميز".
(٤) في ت: "بما علمه منهم" وفي ف: "بما يعلمه منهم".
(٥) في ت: "يعلم".
(٦) في ت: "يبلو".
(٧) في ف: "قبل".
(٨) في ت: "العالم".
(٩) في ت، ف: "والعمل".
(١٠) زيادة من أ.

<<  <  ج: ص:  >  >>