للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَيْ: وَلَكِنْ كَذَّبْنَاهُمْ وَخَالَفْنَاهُمْ، لِمَا سَبَقَ إِلَيْنَا (١) مِنَ الشَقْوة الَّتِي كُنَّا نَسْتَحِقُّهَا حَيْثُ عَدَلْنا عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الْمُلْكِ:٨-١٠] ، أَيْ: رَجَعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ وَالنَّدَامَةِ {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ} [الْمُلْكِ:١١] أَيْ: بُعْدًا لَهُمْ وَخَسَارًا.

وَقَوْلُهُ هَاهُنَا: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ: كُلُّ مَنْ رَآهُمْ وَعَلِمَ حَالَهُمْ يَشْهَدُ (٢) عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ لِلْعَذَابِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُسْنِدْ هَذَا الْقَوْلَ (٣) إِلَى قَائِلٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ أَطْلَقَهُ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْكَوْنَ شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ مَا هُمْ فِيهِ بِمَا حَكَمَ الْعَدْلُ الْخَبِيرُ عَلَيْهِمْ بِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ جَلَّ وَعَلَا {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ: مَاكِثِينَ فِيهَا لَا خُرُوجَ لَكُمْ مِنْهَا، وَلَا زَوَالَ لَكُمْ عَنْهَا، {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أَيْ: فَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَبِئْسَ الْمَقِيلُ لَكُمْ، بِسَبَبِ تَكَبُّرِكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِبَائِكُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، فَهُوَ الَّذِي صَيَّرَكُمْ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ، فَبِئْسَ الْحَالُ وَبِئْسَ الْمَآلُ.

{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (٧٣) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (٧٤) } .

وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ حَالِ السُّعَدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ يُسَاقُونَ عَلَى النَّجَائِبِ وَفْدًا إِلَى الْجَنَّةِ {زُمَرًا} أَيْ: جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ: الْمُقَرَّبُونَ، ثُمَّ الْأَبْرَارُ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كُلُّ طَائِفَةٍ مَعَ مَنْ يُنَاسِبُهُمْ: الْأَنْبِيَاءُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقُونَ مَعَ أَشْكَالِهِمْ، وَالشُّهَدَاءُ مَعَ أَضَرَابِهِمْ، وَالْعُلَمَاءُ مَعَ أَقْرَانِهِمْ، وَكُلُّ صِنْفٍ مَعَ صِنْفٍ، كُلُّ زُمْرَةٍ تُنَاسِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا.

{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} أَيْ: وَصَلُوا إِلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الصِّرَاطِ حُبِسُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَاقْتَصَّ لَهُمْ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا ونُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الصُّوَرِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا انْتَهَوْا إِلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ تَشَاوَرُوا فِيمَنْ يَسْتَأْذِنُ لَهُمْ بِالدُّخُولِ، فَيَقْصِدُونَ، آدَمَ، ثُمَّ نُوحًا، ثُمَّ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى، ثُمَّ مُحَمَّدًا، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، كَمَا فَعَلُوا فِي الْعَرَصَاتِ (٤) عِنْدَ اسْتِشْفَاعِهِمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَأْتِيَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، لِيَظْهَرَ شَرَفُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الْجَنَّةِ" وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: "وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ". (٥) .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ


(١) في س، أ: "لنا".
(٢) في أ: "شهد".
(٣) في أ: "هذا الذي قاله".
(٤) في ت، أ: "الصرخات".
(٥) صحيح مسلم برقم (١٩٦) .

<<  <  ج: ص:  >  >>