للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} أَيِ: اتَّبَعُوا رُسُلَهُ وَأَطَاعُوا أَمْرَهُ، وَاجْتَنَبُوا زَجْرَهُ، {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} وَهِيَ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} أَيْ: لَا يُبْرِمُونَ أَمْرًا حَتَّى يَتَشَاوَرُوا (١) فِيهِ، لِيَتَسَاعَدُوا بِآرَائِهِمْ فِي مِثْلِ الْحُرُوبِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آلِ عمران: ١٥٩] ولهذا كان عليه [الصلاة] (٢) السلام، يُشَاوِرُهُمْ فِي الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا، لِيُطَيِّبَ بِذَلِكَ قُلُوبَهُمْ. وَهَكَذَا لَمَّا حَضَرَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٣) الْوَفَاةُ حِينَ طُعِنَ، جَعَلَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ شُورَى فِي سِتَّةِ نَفَرٍ، وَهُمْ: عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ عَلَيْهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وَذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِ اللَّهِ، الْأَقْرَبِ إِلَيْهِمْ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبِ.

وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} أَيْ: فِيهِمْ قُوَّةُ الِانْتِصَارِ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ وَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ، لَيْسُوا بِعَاجِزِينَ وَلَا أَذِلَّةٍ، بَلْ يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْتِقَامِ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مع هذا إذا قدروا وعفوا، كَمَا قَالَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِإِخْوَتِهِ: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] (٤) } [يُوسُفَ:٩٢] ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مُؤَاخَذَتِهِمْ وَمُقَابَلَتِهِمْ عَلَى صَنِيعِهِمْ إِلَيْهِ، وَكَمَا عَفَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ الثَّمَانِينَ الَّذِينَ قَصَدُوهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَنَزَلُوا مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ، فَلَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِمْ مَنَّ عَلَيْهِمْ (٥) مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ، وَكَذَلِكَ عَفْوُهُ عَنْ غَوْرَث بْنِ الْحَارِثِ، الَّذِي أَرَادَ الْفَتْكَ بِهِ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (٦) حِينَ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتا، فَانْتَهَرَهُ فَوَضَعَهُ مِنْ يَدِهِ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّيْفَ مِنْ يَدِهِ، وَدَعَا أَصْحَابَهُ، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ، وَعَفَا عَنْهُ. وَكَذَلِكَ عَفَا عَنْ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ (٧) ، الَّذِي سَحَرَهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَعْرِضْ لَهُ، وَلَا عَاتَبَهُ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ عَفْوُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنِ الْمَرْأَةِ الْيَهُودِيَّةِ -وَهِيَ زَيْنَبُ أُخْتُ (٨) مَرْحَبٍ الْيَهُودِيِّ الْخَيْبَرِيِّ الَّذِي قَتَلَهُ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ-الَّتِي سَمَّتِ الذِّرَاعَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَأَخْبَرَهُ الذِّرَاعُ بِذَلِكَ، فَدَعَاهَا فَاعْتَرَفَتْ فَقَالَ: "مَا حَمَلَكِ عَلَى ذَلِكَ" قَالَتْ: أَرَدْتُ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنَا مِنْكَ، فَأَطْلَقَهَا، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَكِنْ لَمَّا مَاتَ مِنْهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ قَتَلَهَا بِهِ، وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ (٩) .

{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ (٤٣) }

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:١٩٤]


(١) في أ: "يشاورون".
(٢) زيادة من ت.
(٣) زيادة من ت.
(٤) زيادة من أ.
(٥) في ت، م، أ: "عنهم".
(٦) زيادة من ت.
(٧) في ت: "أعصم".
(٨) في ت، م: "بنت".
(٩) في أ: "ولله الحمد والمنة".

<<  <  ج: ص:  >  >>