للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} أَيْ: بَرْد شَدِيدٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وعِكْرِمة، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَير وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، والرَّبِيع بْنُ أَنَسٍ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: بَرْد وجَلِيد. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمُجَاهِدٍ {فِيهَا صِرٌّ} أَيْ: نَارٌ. وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْبَرْدَ الشَّدِيدَ -سِيَّمَا (١) الْجَلِيدُ (٢) -يَحْرِقُ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ، كَمَا يُحْرَقُ الشَّيْءُ بِالنَّارِ {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} أَيْ: أَحْرَقَتْهُ، يَعْنِي بِذَلِكَ السَّفْعة إِذَا نَزَلَتْ عَلَى حَرْث قَدْ آنَ جدَادُه أَوْ حَصَاده فدمَّرَتْه وأعدَمَتْ مَا فِيهِ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، فَذَهَبَتْ بِهِ وَأَفْسَدَتْهُ، فعَدمَه صَاحِبُهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ. فَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ يَمْحَقُ اللَّهُ ثوابَ أَعْمَالِهِمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَثَمَرَتَهَا كَمَا أَذْهَبَ ثمرةَ هَذَا الْحَرْثِ بِذُنُوبِ صَاحِبِهِ. وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ بَنَوْهَا عَلَى غَيْرِ أصْل وَعَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) }

يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَاهِيًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الْمُنَافِقِينَ بِطَانَةً، أَيْ: يُطْلعونهم عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَمَا يُضْمِرُونَهُ لِأَعْدَائِهِمْ، وَالْمُنَافِقُونَ بِجُهْدِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ لَا يَأْلُونَ الْمُؤْمِنِينَ خَبَالا أَيْ: يَسْعَوْنَ فِي مُخَالَفَتِهِمْ وَمَا يَضُرُّهُمْ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَبِمَا يَسْتَطِيعُونَهُ مِنَ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ، وَيَوَدُّونَ مَا يُعْنتُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُخْرِجُهُمْ ويَشُقّ عَلَيْهِمْ.

وَقَوْلُهُ: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} أَيْ: مِنْ غَيْرِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، وَبِطَانَةُ الرَّجُلِ: هُمْ خَاصَّةُ أَهْلِهِ الَّذِينَ يَطَّلِعُونَ عَلَى دَاخِلِ أَمْرِهِ.

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ: يُونُسُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ -عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِي وَلا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَة إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخيرِ وتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَم اللهُ " (٣) .

وَقَدْ رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ [عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ (٤) فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ] (٥) عنهما. وأخرجه النسائي عن الزهري


(١) في و: "لا سيما".
(٢) في جـ، ر، أ: "والجليلد".
(٣) صحيح البخاري برقم (٦٦١١، ٧١٩٨) والنسائي في الكبرى برقم (٨٧٥٥) .
(٤) في أ: "نحوه".
(٥) زيادة من جـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>