للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فكانت محاسن هذا الباب في النبي - صلى الله عليه وسلم - طبيعة كما رأيت، لأنها عن أسباب طبيعية، وقد وصفوه مع ذلك بحسن الصوت وهو تمامها وحليتُها، فإن هذه اللغة خاصة تجمُلُ بذلك ما لا تجمل به سائر اللغات.

لما فيها من معاني الأوضاع الموسيقية في خفة الوزن، وصحة

الاعتدال، وتمام التساوي، وحسن الملاءمة، فلا جرمَ كان منطقه - صلى الله عليه وسلم - على أتم ما يتفق في طبيعة

اللغة ويتهيأ لها إحكام الضبط وإتقان الأداء: لفظَ مشبعَ، ولسانَ بليلَ، وتجويد فخمَ، ومنطق عذبَ، وفصاحة متأدية، ونظم متساوقَ وطبع يجمع ذلك كله، مع تثبت وتحفظ وتبيين وترسل وترتيل.

وقد قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَسرُدُ كسردِكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل، يحفظه من جلس إليه.

وفي رواية أخرى عنها أيضاً: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه.

فأنت ترى أن هذا هو المنطق الذي يمر بالفكر قبل أن ينطق إلى الفم وأن العقل فيه من وراء اللسان فهو غالب عليه مُصرفَ له، حتى لا يعتريه لبس، ولا يتخونه نقص، وليس إحكامُ الأداء ورَوعة الفصاحة وعذوبة المنطق وسلاسة النظم إلا صفات كانت فيه - صلى الله عليه وسلم - عند أسبابها الطبيعية. كما مر آنفاً. لم يتكلف لها عملاً. ولا ارتاض من أجلها رياضة بل خُلق مستكملَ الأداة فيها، ونشأ مُوَفر الأسباب عليها.

كأنه صورة تامة من الطبيعة العربية.

ولا تمنع أن يكون من فصحاء العرب من يشاركه فيها أو في بعضها: فإنها مظاهر للكلام لا غير؛ وإنَّما الشأن الذي انفرد به - صلى الله عليه وسلم - أنه مُنزه عن النقص الذي يعتري الفصحاء من جهتها أحياناً

كثيرة وقليلة: لأنها طبيعية فيه؛ ولأن من ورائها تلك النفسَ العظيمة الكاملةَ التي غلبت على كل أثر إنساني يصدر عنها، حتى قرت أعمالُها على نظام لا تُعذ فيه الفلتَةُ، ولا يؤخذ عليه مأخذَ،

وحتى كأن كل عمل منها هو كذلك في أصل التركيب وطبع الخلقة وهذه خصوصية ينفرد بها الأنبياء صلوات الله عليهم، إذ هم أمثلة الكمال الإنساني في هذه الخليقة، تنصبهم يدُ الله على طريق الحياة لتنتهي فيهم عصور وتبتدئ بهم عصور وليسددوا خُطا العقل في تاريخه وهي من

الجهة اللغوية مما انفرد به نبينا - صلى الله عليه وسلم - في عربيته، وما يمنعه منها وإنَّما أنزل القرآن بلسانه لسان عربي مبين.

فهذا وجهُ الأمر وسبيله. وهذا فرقُ ما بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين الفصحاء، من جهة إحكام المنطق وامتلائه، فإن أحدهم يكون مهيأ لذلك من أصل الخلقة؛ وبطبيعة النشأة بَيدَ أن طباعه لا تتوافى

إليه في كل منطق وفي كل عبارة؛ بل ربما غلبت خَصلةَ على أختها، وربما تخاذلت طبيعة من

<<  <   >  >>