للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذكر أخبار الأندلس بعد انتقال الدعوة الأموية عنها، ومن ملكها من الملوك إلى وقتنا هذا، وهو سنة ٦٢١ مآل قرطبة بعد انتهاء الدولة الأموية

ولما انقطعت دعوة بني أمية كما ذكرنا بالأندلس ولم يبق من عقبهم من يصلح للإمارة ولا من تليق به الرياسة، استولى على تدبير ملك قرطبة جهور بن محمد بن جهور، ويكني: أبا الحزم، وقد تقدم ذكر نسبه في ترجمة هشام المعتد.

وأبو الحزم هذا قديم الرياسة شريف البيت، كان آباؤه وزراء الدولة الحَكَمية والعامرية، وهو موصوف بالدهاء وبُعد الغَوْر وحصافة العقل١ وحسن التدبير. ولم يدخل من دهائه في الفتن الكائنة قبل ذلك، كان يتصاون عنها ويظهر النزاهة والتدين والعفاف؛ فلما خلا له الجو، وأَصْفَر٢ الفِناء، وأقفر النادي من الرؤساء، وأمكنته الفرصة، وثب عليها، فتولى أمرها، واضطلع بحمايتها.

ولم ينتقل إلى رتبة الإمارة ظاهرًا، جريًا على ما قدمنا من إظهار سنن العفاف؛ بل دبرها تدبيرًا لم يُسبق إليه, وذلك أنه جعل نفسه ممسكًا للموضع إلى أن يجيء من يتفق الناس على إمارته فيسلم إليه ذلك. ورتب البوابين والحشم على تلك القصور على ما كانت عليه أيام الدولة. ولم يتحول عن داره إليها، وجعل ما يرتفع من الأموال السلطانية بأيدي رجال رتبهم لذلك وهو المشرف عليهم. وصير أهل الأسواق جندًا له، وجعل أرزاقهم رءوس أموال تكون بأيديهم محصاةً عليهم يأخذون ربحها ورءوس الأموال باقية محفوظة، يؤخذون بها ويراعون في كل وقت كيف حفظهم لها، وفرق السلاح عليهم وأمرهم بتفرقته في الدكاكين والبيوت، حتى إذا دهمهم أمر في ليل أو نهار كان سلاح كل واحد معه حيث كان من بيته أو دكانه.


١- حَصُفَ الشيء حصافة: جاد واستحكم، يقال: حصف فلان: استحكم عقله، وجاد رأيه.
٢- أَصْفر الفناء وصَفِرَ: خلا.

<<  <   >  >>