للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٤- ابنُ الرُّومي، أصلُهُ وحياتُهُ وصنعتُهُ:

لعله يحسن بنا أن نبحث عن شاعر آخر من جماعة الصانعين قد تثقف بالثقافة الحديثة لنرى ما أصاب منهجهم عنده من تعقيد في أثناء القرن الثالث للهجرة، ولعل خير شاعر نجده في هذا الجانب هو ابن الرومي الذي كان يتعاطى علم الفلسفة١، واسمه علي بن العباس بن جريج، ويتضح من اسم جده أنه ليس عربي الأصل، بل هو رومي، وكانت أمه فارسية، وافتخر بذلك كثيرًا في شعره من مثل قوله:

كيف أغضي على الدنيَّة والفُر ... س خئولي، والرُّوم هم أعمامي

وقد ولد في بغداد سنة ٢٢١ للهجرة، ولم تكد تتقدم به الأيام حتى توفي أبوه فكفلته أمه وأخٌ أكبر منه. ونراه يتجه إلى الثقافة المعاصرة له وإلى الشعر ورواية القديم والحديث منه، ولم يلبث أن جرى على لسانه، فتهادته النوادي والمحافل في بغداد، كما تهاداه الوزراء وكبار رجال الدولة؛ فمدحهم ونال عطاءهم، وابتسمت له الحياة قليلًا غير أنها سرعان ما عبست له، فماتت أمه ومات أخوه، وتزوج وأنجب أطفالًا إلا أن القدر أخذ يعصف بهم واحدًا وراء الآخر وماتت زوجته.

ولم يكن هذا كل ما هناك؛ فقد كان فيه ضيقُ خلقٍ، وكان فيه اختلال في أعصابه، لعله كان ثمن نبوغه؛ فلم يشعر بشيء من الفرحة بالحياة، بل شعر كأنها كأس مر يتجرعه، فانقلب ساخطًا على كل ما حوله، حتى على من أكرموه وفسحوا له في مجالسهم وأغدقوا عليه من أموالهم، فهجاهم، ونفروا منه، فاحتجبوا عنه، وانقلب المستقبل الباسم الذي كان ينتظره إلى مستقبل


١ رسالة الغفران "طبعة كامل الكيلاني" ٢/ ٧٤.

<<  <   >  >>