للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذه الظاهرة نفسها تقترن بالشعر العربي ونشأته الأولى في العصر الجاهلي؛ فإن من يبحث في تاريخه يجده مشبهًا من بعض الوجوه لتاريخ الشعر اليوناني من حيث الغناء وما يتصل به من ضروب الرقص والموسيقى؛ فنحن نعرف أن الشعر القصصي عند اليونان القدماء كان يصحب إنشاده بالضرب على بعض الأدوات الموسيقية البسيطة، وسرعان ما تعقَّد هذا الجانب الموسيقي عندهم مع ظهور الشعر الغنائي؛ إذ وجدت الجوقة مع الشاعر ووجد الرقص وتعقدت الموسيقى ضروبًا من التعقيد.

وهذا نفسه نجده ظواهره في الشعر الجاهلي القديم؛ فقد كان الشعراء يغنون أشعارهم، والأدلة على ذلك كثيرة؛ فالمهلهل أقدم شعراء العرب وأول من قصد القصائد، كان يغني شعره، ومما غنى فيه ورواه الرواة قصيدته١:

طَفْلَةٌ ما ابنةُ المحلَّل بيضا ... ءُ لعوبٌ لذيذةٌ في العناقِ

أما امرؤ القيس فقد ذكر إعجاب بعض النسوة بصوته؛ إذ يقول٢:

يَرِعْنَ إلى صوتي إذا ما سَمِعْنَه ... كما تَرْعَوِي عِيطٌ إلى صوت أَعْيَسَا

ويقول أبو النجم في وصف قينة٣:

تَغَنَّى فَإنَّ اليوم يومٌ من الصِّبَا ... ببعض الذي غَنَّى امرؤ القيس أو عمرو

ولعله يريد عمرو بن قميئة صاحب امرئ القيس. وروى صاحب الأغاني أن السُّلَيْكَ بن السُّلكة غنى بقوله٤:

يا صاحبيَّ ألا لا حَيَّ بالوادي ... سوى عبيدٍ وآمٍ بين أَذْواد

وكان علقمة بن عبدة الفحل يغني ملوك الغساسنة أشعاره٥ ويقول مُزرِّد


١ أغاني "دار الكتب" ٥/ ٥١. والطفلة: الرخصة الناعمة. وما زائدة.
٢ الديوان ص١٠٦. يرعن: يملن. العيط: الإبل، الأعيس: البعير الأبيض في حمرة.
٣ الشعر والشعراء ص٤٢.
٤ أغاني "ساسي" ١٨/ ١٣٤. وآم: إماء. أذواد: جمع ذود وهو من ثلاثة إبل إلى عشرة.
٥.H.G. Farmer, History of Arabic Music, P. I٨

<<  <   >  >>