للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[ذكر التغاير]

أغاير الناس في حب الرقيب فمذ ... أراه أبسط آمالي بقربهم

التغاير: سماه قوم التطلف، وهو أن يتطلف الشاعر بتوصله إلى مدح ما كان قد ذمه، هو أو غيره. فأما مدح الإنسان ما ذمه غيره، فإن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أتى فيه بما يمتزج صافي مشربه بالأرواح، وينقلنا ببديع بلاغته من الإبهام إلى الإيضاح. فمن ذلك خطبته التي مدح فيها الدنيا، مغايرًا لأمثاله في ذمها، حيث قال:

أيها الذام للدنيا، المغتر بغرورها، بم تذمها، أنت المتجرئ عليها أم هي المتجرئة عليك، متى استهوتك أم متى غرتك، أبمصارع آبائك من البلى، أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى، كم عللت ولديك، وكم مرضت والديك تبغي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء، لم ينفع أحدهم إشفاقك، ولم تشف لهم بطبك، ولم تدفع عنهم بقوتك، قد مثلت لك بهم الدنيا نفسك، وخيلت لك بمصرعهم مصرعك، إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحباب الله، ومصلى ملائكته، ومهبط وحي الله، ومتجر أوليائه، اكتسبوا منها الرحمة، وربحوا منها الجنة، فمن ذا يذمها وقد أدّبت بنيها ونادت بفراقها ونعت نفسها وأهليها، فمثلت لهم ببلائها البلى، وشوقتهم بسرورها إلى السرور، وراحت بعافية، وابتكرت بفجيعة، ترغيبًا وترهيبًا، فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون ذكرتهم الدنيا فذكروا، وحدثتهم فصدقوا، ووعظتهم فاتعظوا:

ونظم ابن أبي الأصبع معاني هذه الخطبة فقال:

<<  <  ج: ص:  >  >>