للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[العبادات.. وظني الثبوت]

المجيب أحمد بن عبد الرحمن الرشيد

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

أصول الفقه / الأحكام وأدلتها/الأحكام التكليفية

التاريخ ٢٠/٣/١٤٢٤هـ

السؤال

سؤالي هو أننا تعبدنا بغلبة الظن (ظني الثبوت) ، والله تبارك وتعالى يقول:"وإن الظن لا يغني من الحق شيئا"، كيف التوفيق بينهما؟

وجزاكم الله كل الخير.

الجواب

ورد في القرآن الكريم عدد من الآيات التي تحذر من الظن وتنهى عن اتباعه، ومن ذلك قوله -تعالى-: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم" [الحجرات: ١٢] وقوله: "وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً " [النجم: ٢٨] .

كما ورد في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- عددٌ من الأحاديث التي تدل على نفس ما

دل عليه الكتاب، ومن ذلك: ما ثبت في الصحيحين البخاري (٥١٤٤) ، ومسلم (١٤١٣) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:"إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ". والمقصود بالظن المنهي عنه في هذه النصوص: الظن المذموم الذي لا أساس له من الصحة، ولا مستند له إلا التوهمات والخيالات التي لا تستند إلى شيءٍ من العلم والمعرفة، ويؤيد هذا الأمر الرجوع إلى أسباب نزول تلك الآيات الناهية عن اتباع الظن، وكذلك معرفة أسباب ورود الأحاديث التي تحذر من الظن واتباعه، أما الظن الذي يعمل به العلماء، ويذكرون أننا متعبدون باتباعه فهو الظن الغالب المستند إلى ما يقويه ويقدمه على غيره، وليس مجرد الظن، ويوضح هذا الأمر أن الظن قسمان، ذكرهما القرطبي في كتابه (الجامع لأحكام القرآن) عند تفسيره لقوله -تعالى-:"يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم" [الحجرات: ١٢] حيث قال: "للظن حالتان: حالة تعرف وتَقوَى بوجه من وجوه الدلالة فيجوز الحكم بها، وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن؛ كالقياس وخبر الواحد وغير ذلك من قيم المتلفات وأروش الجنايات، والحالة الثانية: أن يقع في النفس شيءٌ من غير دلالة فلا يكون ذلك أولى من ضده، فهذا هو الشك، ولا يجوز الحكم به، وهو المنهي عن اتباعه " ا. هـ (١٦/٢١٧) ومن خلال ما سبق يتبين أن الظن منه ما هو مقبول ومنه ما هو مردود، فإن كان ظناً غالباً عليه دلالة تقويه وتعضده فهو المحمود، وهو الذي تُعبدنا بالعمل به، وإن كان ظناً مجرداً ليس له ما يسنده فهو الظن المذموم الذي نهينا عن اتباعه، وقد بين العلماء أن العمل بالظن الغالب من رحمة الله بعباده؛ لأن العلم القطعي في كل الأحكام من الأمور المتعذرة، فلو طُلب منا العلم القطعي في كل الأمور لأصابنا من الحرج والمشقة والضيق ما لا يخفى على أحد، ولتعطلت كثير من الوقائع عن الأحكام؛ لتعذر العلم القطعي فيها، وهذا لا تقره الشريعة، التي جاءت بياناً شافياً لكل ما يحتاج إليه الناس، ومما يدل على أن الظن الغالب بمنزلة العلم أن الله -سبحانه وتعالى- أطلق لفظ العلم وأراد به الظن الغالب، ومن ذلك قوله -تعالى-: "فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار" [الممتحنة: ١٠] أي: إذا غلب على ظنكم أنهن مؤمنات؛ لأن الإيمان الحقيقي لا يعلمه إلا الله. والله أعلم، -وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه-.

<<  <  ج: ص:  >  >>