للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[هل يجب التزام مذهب معين؟]

المجيب أحمد بن عبد الرحمن الرشيد

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

أصول الفقه /الاجتهاد والتقليد

التاريخ ١١/١١/١٤٢٤هـ

السؤال

هل يجوز لي أن أكون شافعياً؟ ولكن متبعا للدليل، وما الحكم لو خالفتهم في مسألة فقهية مثلا ولو لم يظهر لي الدليل الصريح الصحيح فيها؟

مثلاً: مسألة وجوب الإتيان بالقنوت في صلاة الفجر، فهم يقولون من لم يأت بدعاء القنوت في الفجر يسجد سجود السهو، وغير ذلك.

الجواب

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا

محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد اختلف أهل العلم في حكم التزام مذهب معين من المذاهب المعتبرة على أقوال عديدة، والذي يرجحه المحققون منهم: جواز ذلك في حق العامي وغير العالم بأحكام الشريعة؛ لأن هؤلاء لا يستطيعون النظر والاجتهاد، ومن أجل ألاّ يختار أحدهم الأسهل والأهون من أقوال أهل العلم من المذاهب المختلفة.

أما طلاب العلم والقادرون على النظر في الأدلة والاجتهاد في النوازل والحوادث ولو بالاجتهاد الجزئي - وهو القدرة على الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض - فإن الواجب عليهم النظر في الأدلة، والعمل بما يوافقها، وطرح ما يخالفها؛ لأن الواجب على جميع المكلفين معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها، ولكن تُرك هذا الأمر في حق عامة الناس لعدم قدرتهم عليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول:"لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" [البقرة من الآية:٢٨٦] ، فيبقى الأمر على ما هو عليه فيمن عداهم من أهل العلم وطلابه، وبهذا يتضح أن الشخص العامي الذي لا يستطيع النظر في الأدلة يجوز له أن يقلّد أحد الأئمة المجتهدين، المشهود لهم بالعلم والصلاح، ويتبعه في كل ما لم يعلم بطلانه، أما إذا علم بطلان قوله في أي مسألة من المسائل بأن تبين له فيها دليل يخالف قول إمامه فإن الواجب عليه العمل بما دل عليه الدليل، ولا يجوز له حينئذٍ الاستمرار على ما ذهب إليه إمامه؛ لأن التقليد إنما جاز لهذا العامي؛ لأنه جاهل بالدليل، أما إذا عرفه أو أٌخبر به وجب عليه ترك التقليد والعمل بالدليل؛ لعدم الحاجة إلى التقليد. وإذا ثبت أن العامي يُشرع له تقليد أحد الأئمة المعتبرين فإن مخالفته له حينئذٍ تكون على قسمين:

الأول: أن يخالف العامي مذهب إمامه لظهور دليلٍ صحيح يدل على خلاف ما ذهب إليه إمامه، وهنا يجب على العامي العمل بما دل عليه الدليل وترك التقليد.

الثاني: أن يخالف مذهب إمامه من غير ظهور دليل يدل على خلاف ما ذهب إليه إمامه، وهنا لا يجوز للعامي أن يخالف إمامه؛ لأنه لا يخالفه حينئذٍ على علم-كما في القسم الأول- وإنما على هوى، واتباع الهوى لا يجوز.

أما مسألة القنوت في صلاة الفجر بصفة دائمة، فقد اختلف أهل العلم فيها، وذهب كثير من أهل العلم إلى عدم مشروعية ذلك، وهو الحق؛ لعدم الدليل على ذلك، وإنما دل الدليل على مشروعية القنوت في النوازل التي تنزل بالمسلمين؛ لما ثبت في صحيح مسلم (٦٧٧) عن أنس -رضي الله عنه-: "أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قنت شهراً يدعو على أحياء من أحياء العرب، ثم تركه"، ولما رواه الترمذي (٤٠٢) والنسائي (١٠٨٠) وابن ماجه (١٢٤١) عن أبي مالك الأشجعي أنه قال لأبيه -رضي الله عنه-: إنك صليت خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي - رضي الله عنهم- هاهنا بالكوفة نحواً من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني مُحْدَثٌ، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم.

ومما يدل على أن القنوت في غير الوتر مختصٌ بالنوازل التي تنزل بالمسلمين ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: " إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -كان لا يقنت في صلاة الفجر إلا إذا دعا لقوم، أو دعا على قوم " انظر تهذيب الآثار (٥٤٩) .

ولكن الإنسان إذا صلى خلف إمام يرى مشروعية القنوت في صلاة الفجر بصفة دائمة، فإنه يتابعه في الصلاة والقنوت، ويؤمِّن على دعائه، وإن كان المصلي لا يرى مشروعية هذا الأمر؛ لأن مصلحة اجتماع الناس والتفاف بعضهم ببعض خير من التفرق من أجل أمرٍ مختلف فيه، وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إلى قريبٍ من هذا المعنى، حيث قال:" ولهذا ينبغي للمأموم أن يتبع إمامه فيما يسوغ فيه الاجتهاد، فإذا قنت قنت معه، وإن ترك القنوت لم يقنت، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما جُعل الإمام ليؤتم به" رواه البخاري (٣٧٨) ومسلم (٤١١) من حديث أنس -رضي الله عنه-، وقال: "لا تختلفوا على أئمتكم" انظر ما رواه البخاري (٧٢٢) ومسلم (٤١٤) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وثبت عنه في الصحيح أنه قال: "يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم" رواه البخاري (٦٩٤) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، فإذا قنت لم يكن للمأموم أن يسابقه، فلابد من متابعته، ولهذا كان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه- قد أنكر على عثمان -رضي الله عنه- التربيع بمنى، ثم إنه صلى خلفه أربعاً، فقيل له في ذلك، فقال: الخلاف شر " ا. هـ. ولذا فإن الواجب عليك إذا صليت خلف إمام يرى مشروعية القنوت في صلاة الفجر أن تتابعه في القنوت وتؤمن على دعائه، وإذا نسي القنوت وسجد للسهو فعليك متابعته في ذلك؛ لما سبق ذكره.

أما إذا صليت وحدك فلا تقنت؛ لأن الأدلة الصحيحة التي سبق ذكرها تدل على عدم

مشروعيته إلا في النوازل.

والله الموفق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج: ص:  >  >>