للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[كيف نجمع بين هذين النصين؟!]

المجيب د. محمد بن عبد الله القناص

عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم

أصول الفقه /التعارض والترجيح

التاريخ ٢٦/٠٤/١٤٢٥هـ

السؤال

كيف نجمع بين قوله -تعالى-:"والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.." الآية في سورة آل عمران. وحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-:"يأتي أقوام يوم القيامة بأعمال كالجبال يجعلها الله هباء منثورا"، فقال الصحابة - رضي الله عنهم- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلهم لنا يا رسول الله، فقال: "أما إنهم يصلون كما تصلون ويصومون كما تصومون ويقومون من الليل كما تقومون لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها". الحديث ... نرجو الإيضاح. ولكم جزيل الشكر.

الجواب

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

دلت نصوص الكتاب والسنة على أن التوبة النصوح التي استكملت الشروط يحصل بها مغفرة الذنوب وتكفير السيئات ودخول الجنات، كما جاء في الآية التي ذكرها السائل، وهي قوله -تعالى-: "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ" [آل عمران:١٣٥] ، وكما في قوله -تعالى-: "وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً" [الفرقان:٦٨-٧٠] ، وكما في قوله -تعالى-: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [الزمر:٥٣] ، وقد ورد في سبب نزول هاتين الآيتين ما أخرجه البخاري (٣٨٥٥) ، ومسلم (١٢٢) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أَنَّ قَوْمًا كَانُوا قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا وَانْتَهَكُوا، فَأَتَوْا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالُوا يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَر"َ إِلَى: "فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ" قَالَ: يُبَدِّلُ اللَّهُ شِرْكَهُمْ إِيمَانًا وَزِنَاهُمْ إِحْصَانًا، وَنَزَلَتْ: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ" الْآيَةَ، وأما ما جاء في الحديث المذكور في السؤال فهو محمول - والله أعلم - على أن هؤلاء الذين انتهكوا محارم الله قد وافتهم المنية ولم يتوبوا من هذه الذنوب، أو لم يستوفوا شروط التوبة، وهي: الإقلاع عن الذنب والعزم على عدم العود، والندم على مافات، وإذا كانت الحقوق للعباد لم يقوموا بأدائها، والخروج من المظالم، فبقيت السيئات والذنوب من غير توبة، فقدموا على ربهم وهم يحملونها على ظهورهم، فعند الموازنة تغلب سيئاتهم حسناتهم، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم (٢٥٨١) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟، قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ"، وكما أخرجه البخاري (٦٥٣٤) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ"، ويحتمل أن هؤلاء الذين جاء وصفهم في الحديث المذكور في السؤال فعلوا هذه المحرمات فعل المستحل لها الآمن من مكر الله وعقوبته، ويؤيد هذا أن معنى الانتهاك المبالغة في خرق محارم الله، والحديث المذكور من أفراد ابن ماجة (٤٢٣٥) أخرجه من حديث ثَوْبَانَ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: " لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا" قَالَ ثَوْبَانُ -رضي الله عنه-: "يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا"، وقال البوصيري: إسناده صحيح. هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

<<  <  ج: ص:  >  >>