للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[جرأة غير المختصين على الفتوى]

المجيب أحمد بن عبد الرحمن الرشيد

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

أصول الفقه /الفتوى والإفتاء

التاريخ ١٦/٣/١٤٢٤هـ

السؤال

أريد إجابة وافية شافية رداً على من يقول إن الحديث عن الدين لا يحتاج إلى مختص؟

فيفتون ويجيبون ويقولون وجهات نظرهم كما يشاءون، وجزاكم الله خيراً.

الجواب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

من الأمور المسلمة عند أهل العلم: أن الكلام في الأحكام الشرعية وما يتعلق بها ليس متاحاً لكل أحد، كما أنه ليس مقصوراً على أناسٍ محددين معينين لا يشاركهم غيرهم، وإنما هناك حدٌ من العلم من حصّله جاز له أن يتكلم في أمور الدين في حدود ما يعلم، وحرُم عليه الكلام فيما يجهل من الأحكام.

وذلك لأن الكلام في أمور الدين إنما هو إخبارٌ عن حكم الله، أو حكم رسوله -صلى الله عليه وسلم- في المسألة، وإذا كان الإنسان لا يحيط علماً بما ورد عن الله وعن -رسوله صلى الله عليه وسلم-، فإن إخباره عنهما لا يكون مطابقاً لما جاء عنهما، وإنما يكون من تلقاء نفسه، واعتماداً على عقله، وبذلك يجعل عقله حاكماً على الشرع، وهذا باطل، ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوةٌ حسنة، حيث كان يجيب السائل إذا كان عنده علم بالمسألة، وإذا لم يكن عنده علم بها فإنه ينتظر الوحي، ولم يتكلم فيها إذ كان غير عالمٍ بحكمها.

وكذلك الأمر بالنسبة للصحابة والتابعين -رضي الله عنهم أجمعين- حيث كانوا لا يتكلمون إلا فيما يعلمونه من أمور الشرع، وقد حفظت لنا سيرهم توقف كثير منهم وامتناعهم عن الكلام فيما جهلوا من الأحكام، ومما حُفِظَ عنهم في ذلك: قول أبي بكر -رضي الله عنه-: " أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا تكلمت في كتاب الله بغير علم" رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (١٥٦١) وغيره، وقد سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله عن أربعين مسألة، فأجاب عن أربعٍ منها، وقال في ستٍ وثلاثين: لا أدري، ونحو ذلك من الأخبار التي يتبين فيها أن العلماء الربانيين والأئمة المجتهدين لم يكونوا يتكلمون في أمور الدين إلا في حدود ما علموه واطلعوا عليه.

وإذا كان الأمر كذلك في حق العلماء والأئمة المجتهدين، فالواجب على غيرهم ممّن لم يطلب العلم ولم يكن من أهله الموصوفين به ألا يتكلم فيما يتعلق بالأحكام الشرعية؛ لأنه غير عالم بها، وغير العالم لا يجب عليه السكوت فحسب، بل يجب عليه مع السكوت أن يسأل العلماء؛ استجابةً لقوله تعالى: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" [النحل: ٤٣] ، ويحرم عليه أن يتصدى ويتصدر في أمورٍ هو جاهلٌ بها؛ عملاً بقوله تعالى:"ولا تقف ما ليس لك به علم " [الإسراء: ٣٦] .

وهذا الأمر هو المتبع عند الناس في أمور دنياهم، فنجدهم لا يرضون بكلام الإنسان إلا فيما يعلم، فمثلاً: إذا أصاب أحدَهم مرضٌ فإنه لا يسأل إلا الطبيب، ولا يعتمد على كلام غيره من الناس، وإذا أراد أحدهم البناء فإنه لا يسأل إلا المهندسين الذين يمتهنون البناء والتصميم، وهكذا فكل إنسان يتكلم فيما يحيط بعلمه في أمور الدنيا، وإذا كان الأمر كذلك في أمور الدنيا فأمور الدين من باب أولى ألّا يتكلم فيها إلا أهل العلم وطلبته الذين أخذوا منه بحظٍ وافر.

وقد يقول قائل: إن الإنسان وإن لم يكن من أهل العلم، إلا أنه قد يبحث عن أدلة المسألة المعينة، ثم يتكلم فيها بناءً على ما علمه من أدلتها، فيقال له: إن الأدلة الشرعية مترابطة، وبعضها مبنيٌ على بعض، ثم إن الدليل المعين يحتاج إلى عدة أمور من أجل أن يصح الاستدلال به، كأن يكون صحيحاً ثابتاً عن الله أو عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، غيرَ معارضٍ بغيره من الأدلة الأخرى، سالماً من النسخ والتأويل، ونحو ذلك مما لا يعرفه إلا أهل العلم الذين نهلوا منه، وهذه الأمور بلا شك لا تتوفر في عامة الناس.

ونحن لا نقول هذا الكلام بناءً على أن الدين له رجالٌ محددون معينون لا يتكلم فيه غيرهم، كما هو الأمر في بعض الديانات الأخرى، ولكن نقول: إنه لا يتكلم في أمور الدين إلا العلماء الذين حازوا شروط العلم التي ذكرها أهل العلم، فكل من حصّلها جاز له الكلام في الأحكام الشرعية في حدود ما يعلم كما سبق ذكره.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج: ص:  >  >>