للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[هل في التيسير جناية على الشريعة؟!]

المجيب أ. د. سعود بن عبد الله الفنيسان

عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً

أصول الفقه /الفتوى والإفتاء

التاريخ ١/٠٥/١٤٢٥هـ

السؤال

أحس -يا فضيلة الشيخ- بأن هناك فهماً خاطئاً - مجرد إحساس وخواطر وليس جزماً - من بعض المشايخ، وطلبة العلم، والدعاة، لحقيقة يسر الدين وسماحته, وخطأً في فهم بعض القواعد والأصول -،أرى ميل بعضهم إلى أقوال مرجوحة، أو ضعيفة؛ بحجة التخفيف والتيسير, وأزعم بأن خوف بعضهم من اتهام الدين بالشدة - من المنافقين والعلمانيين - يحملهم على الميل إلى الأسهل، وإلى محاولة التقريب بين الدين وبين أقوال بعض أعدائه، كما نسمع عن الشيخ محمد عبده -رحمه الله- بأنه كان جسراً لدعاة تحرير المرأة من غير أن يشعر, وبعضهم يحمله ضعف الناس عن قبول الحق والعمل به إلى أيسر الأقوال، وأضعفها.

إني أخشى - حقاً يا فضيلة الشيخ - أن يكونوا قد أخطأوا - وبحسن نية - في بعض فهمهم وآرائهم، هناك قاعدة مشهورة: (قاعدة سد الذرائع) ، وكما تشدد فيها قوم, أرى مؤخراً تساهلا بها والقول بأن (منع الناس سيؤدي إلى ارتكابهم المحظور فلنتساهل ولا نضيق على الناس!)

إني أظن أنك تراني متشائماً، ولست كذلك، ولكن هذا ما يدور برأسي من خواطر أحببت سماع رأيكم فيها، والله يحفظكم ويوفقنا وإياكم لكل خير.

الجواب

لقد صدقت مع نفسك حين وصفت ما بدا لك بأنه خواطر -جمع خاطرة- دارت في ذهنك، إذ مادة (خطر) ، بجميع اشتقاقاتها، وتصريفها تدور على الوهم، والظن، والتردد، وعدم الجزم، وما دار في ذهنك عن بعض الدعاة، والصالحين في هذا العصر من كونهم إنما ركبوا موجة التسامح، والتيسير من أجل التقريب بين الدين، وبين أقوال أعدائه، ضرب من الوهم والتجني على معظم الدعاة والوسطية في أسلوب دعوتهم، وكأنك تميل إلى الشدة وتحبذ التعسير على الناس في الفتوى، وكيف يكون هذا والإسلام دين اليسر، والسماحة والرخصة، والإباحة؛ قال -تعالى-: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"، وقال: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" [الحج: ٧٨] ، ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم-: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق" رواه أحمد (٢٧٣١٨) من حديث أنس -رضي الله عنه-، ويقول: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن شق عليهم فاشقق عليه" رواه مسلم (١٨٢٨) من حديث عائشة-رضي الله عنها-، ويقول أيضاً - صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته" رواه أحمد (٥٨٣٢) من حديث ابن عمر-رضي الله عنهما-، وقاعدة: (سد الذرائع) ، لا يعمل بها في كل حال، كما قرر العلماء كابن القيم الجوزية في كتابه: (أعلام الموقعين) حيث يقول: إن الذرائع كما يجب سدها حيناً يتعين فتحها، في أحيان أخرى، والفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، والأحوال، والنيات، ويقول بعض العلماء: إن إعمال قاعدة (سد الذرائع) يتعين في جانب العقيدة دون سائر الأحكام الفرعية، وإفتاء العالم الناس بالرخصة والتيسير هو عين الصواب، وضد ذلك التشدد والتعسير في الدين، في الحديث قصة النفر الذين جاءوا إلى بيت النبوة يسألون عن عبادته - صلى الله عليه وسلم- فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: فأقوم الليل ولا أرقد، وقال الثالث: لا آكل اللحم، ولا أتزوج النساء، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم- مقالهم فجمع الناس، وخطبهم، فقال: "ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما إني والله لأتقاكم لله، وأعلمكم به، وإني أصلي، وأرقد، وأصوم، وأفطر، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" رواه البخاري (٥٠٦٣) ، ومسلم (١٤٠١) من حديث أنس -رضي الله عنه-، ثم إن الناس يتفاوتون في تدينهم، كما يتفاوتون في إيمانهم زيادة ونقصاً، وقوة وضعفاً، فالمفتي والعالم يعطي كلاً من هؤلاء ما يناسبهم، كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل مع صحابته -رضي الله عنهم-، حيث يعطي الإمارة البعض ويمنعها عن البعض الآخر، كما منعها أبا ذر الغفاري - رضي الله عنه-، فالفتاوى بالرخصة والتيسير هي الفقه الذي أمر الله به، قال سفيان الثوري: (العلم أن تسمع الرخصة من ثقة، أما التشديد فكل يحسنه) ، وبناء على ما سبق فإن الظن ببعض الدعاة والمصلحين اليوم بأنهم إنما ييسرون لقصد موافقة الأعداء من الظن السوء المنهي عنه، وأما رفع الدعوة والمناداة بفقه التيسير والتسامح وتجديد الخطاب الديني بما يناسب العصر، مع التمسك بالثوابت والمسلمات فهو عين الصواب الذي هو فقه الواقع الذي يدخل إلى القلوب بلا استئذان، كما يقول ابن قيم الجوزية - رحمه الله-: (بل هو اليسر والتوسط في كل الأمور بين إفراط المتحللين، وتفريط المتشددين) ، ومقولة: (هم رجال ونحن رجال) ، صحيحة إذا كان القائل لها معه دليل صحيح وفهم صريح، حيث الرجال يعرفون بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال، فكل يؤخذ منه ويرد غير النبي - صلى الله عليه وسلم - المعصوم فيما يبلغه عن ربه -صلوات الله وسلامه عليه- ولا يجوز في الدين تقليد الرجال ابتداءً إلا من لم يعرف أدلة أولئك الرجال. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، آمين.

<<  <  ج: ص:  >  >>