للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اعتبار المصلحة المرسلة وإلغاؤها]

المجيب وليد بن إبراهيم العجاجي

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

أصول الفقه /مسائل متفرقة في أصول الفقه

التاريخ ٠٤/٠٥/١٤٢٦هـ

السؤال

هل تلغى المصلحة المرسلة إذا استعملت، ثم تبين خلافها؟.

الجواب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، سبحانك اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، وبعد: فإن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب، وهو لا يخلو من ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يشهد الشرع بقبوله، فلا إشكال في صحته، ولا خلاف في إعماله، وإلا كان مناقضة للشريعة، كشريعة القصاص، فإن المعنى المناسب فيه هو حفظ النفوس، وقد جاء النص الخاص باعتبار هذا المعنى، قال تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) .

القسم الثاني: ما شهد الشرع برده، فلا سبيل إلى قبوله؛ إذ المناسبة لا تقتضي الحكم لنفسها، وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي، فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى المناسب بل رده كان مردوداً باتفاق المسلمين. ومثاله: ما حكى الغزالى عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلاطين، فسأله عن الوقاع في نهار رمضان، فقال: عليك صيام شهرين متتابعين، فلما خرج راجعه بعض الفقهاء، وقالوا له: القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل به إلى الصوم، والصوم وظيفة المعسرين، وهذا الملك يملك عبيداً غير محصورين، فقال لهم: لو قلت له عليك إعتاق رقبة لاستحقر ذلك، واعتق عبيداً مراراً فلا يزجره إعتاق الرقبة، ويزجره صوم شهرين متتابعين. فهذا المعنى مناسب؛ لأن الكفارة مقصود الشرع منها الزجر، والملك لا يزجره الإعتاق ويزجره الصيام.

لكن هذا المعنى مصادم للنص الذي جاء بترتيب الكفارة، كما في حديث الأعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - (اعتق رقبة ... ) ،فبدأ بها أولاً، وهذا الملك قادر على إعتاق الرقبة، والرقاب موجودة، فتلزمه.

فهذا المعنى وإن قلنا إنه مناسب إلا أن مناسبته مدركة بالعقل البشري الذي لا يستقل بتحسين الفعل وتقبيحه، بل لا بد من ردِّ الأمور إلى بارئها، فما حسَّنه فهو الحسن، وإن قصرت العقول عن إدراك حسنه، وما قبَّحه فهو القبيح، وإن رأت بعض العقول تحسينه. ويدخل في المعنى المناسب الذي جاء الشرع برده: ما يظنه بعض الناس من مصالح في التعامل بالربا والفوائد البنكية تعود على المتعاملين بالنفع، فمثل هذه المصالح المظنونة مصادمة للأدلة التي تنهى عن التعامل بالربا.

القسم الثالث: ما سكتت عنه الشواهد الخاصة، فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه، لكن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين، وهذا هو الاستدلال المرسل المسمى بالمصالح المرسلة، ومن أمثلتها: جمع الصحابة القرآن؛ فإن الصحابة قد اتفقوا على جمع المصحف، وليس ثم نص على جمعه وكتبه أيضاً، بل قد قال بعضهم: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم-؟ فروي عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: أرسل إلي أبو بكر - رضي الله عنه - بعد مقتل أهل اليمامة، وإذا عنده عمر - رضي الله عنه - قال أبو بكر: إن عمر أتاني، فقال: إن القتل قد استحر بقراء القرآن يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها؛ فيذهب قرآن كثير وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قال: فقلت له كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي - هو - والله - خير، فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري له، ورأيت فيه الذي رأى عمر، قال زيد: فقال لي أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك قد كنت تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتتبع القرآن فاجمعه.

قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي من ذلك، فقلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم يزل يراجعنى في ذلك أبو بكر حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدورهما؛ فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف ومن صدور الرجال.

فهذا عمل لم ينقل فيه خلاف عن أحد من الصحابة، ولم يرد نص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما صنعوا من ذلك، ولكنهم رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعاً، فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة، والأمر بحفظها معلوم، وإلى منع الذريعة للاختلاف في أصلها الذي هو القرآن، وقد علم النهي عن الاختلاف في ذلك بما لا مزيد عليه.

وإذا استقام هذا الأصل؛ فاحمل عليه كتب العلم من السنن وغيرها إذا خيف عليها الاندراس زيادة على ما جاء في الأحاديث من الأمر بكتب العلم.

وبعد هذا -يا أخي الفاضل- فإن ما يراه الإنسان مصلحة في أمر، ثم يتبين له المصلحة في غيره لا عبرة به، بل المعتبر ما يراه الشارع مصلحة وما لا يراه، والعقل البشري قد يدرك ذلك، وقد يخفى عليه، فاتهم عقلك تجتنب الزلل بإذن الله تعالى، والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>