للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ضعف أحاديث التباكي]

المجيب د. محمد بن عبد الله القناص

عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم

التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها

التاريخ ٦/٣/١٤٢٥هـ

السؤال

ذكر أحد الفضلاء في كتابٍ له عن البكاء والتباكي أن أحاديث الحث على التباكي كلها ضعيفة وأن االتباكي من النفاق، فما وجهة نظركم في هذا الكلام؟

الجواب

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد

نعت الله -عز وجل- عباده المؤمنين المتدبرين لكلامه المتفكرين في معانيه بوجل القلب ورقته وخشوعه وجريان الدمع عند سماعه وتلاوته فقال -تعالى-: " اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الزمر:٢٣] ، وقال -تعالى-: "إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً" [الإسراء:١٠٧-١٠٩] ، قال عبد الأعلى التيمي: (من أوتي من العلم ما لا يبكيه فليس بخليق أن يكون أوتي علماً ينفعه؛ لأن الله -تعالى- نعت العلماء فقال: "إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ.... "وتلا الآيتين.

وقال -تعالى-: "وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ... " [المائدة:٨٣] ، وفي الصحيحين البخاري (٤٥٨٢) ، ومسلم (٨٠٠) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا" [النساء:٤١] رَفَعْتُ رَأْسِي أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ قال ابن بطال: " وإنما بكى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند هذا لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة، وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بتصديقه والإيمان به، وسؤاله الشفاعة لهم ليريحهم من طول الموقف، وأهواله، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن "، واقتدى الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم من سلف هذه الأمة رضي الله عنهم بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ذلك فكانوا عند قراءة القرآن أو سماعه يغلبهم الوجل أو البكاء بأدب وخشية.

- ففي صحيح مسلم (٤١٨) من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في مرضه الذي تُوفي فيه: " مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ " قَالَتْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لَا يُسْمِعْ النَّاسَ....، وفي رواية قالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ ".

- وفي صحيح البخاري (٣٩٠٥) من حديث عائشة -رضي الله عنها- حين ذكرت خروج أبي بكر - رضي الله عنه- إلى أرض الحبشة، ثم رجوعه، ودخوله في جوار ابن الدَّغنة، قالت: ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَنقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَبْنَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ....

- ولما قدم أهل اليمن في زمان أبي بكر -رضي الله عنه- فسمعوا القرآن جعلوا يبكون فقال أبو بكر - رضي الله عنه-: " هكذا كنا ثم قست القلوب "

- وعن عبد الله بن شداد أنه قال: " سمعت نشيج عمر - رضي الله عنه-، وأنا في آخر الصف، وهو يقرأ سورة يوسف: "إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ" [يوسف:٨٦]

- وعن سالم بن عبد الله أن ابن عمر -رضي الله عنهما- قرأ: "وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ" [البقرة:٢٨٤] الآية فدمعت عيناه.

- وعن عبد الله بن رباح عن صفوان بن محرز أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى حتى أرى قصص زوره سيندق " وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ" [الشعراء:٢٢٧] .

- وعن إبراهيم التيمي قال: " لقد أدركت ستين من أصحاب عبد الله في مسجدنا هذا أصغرهم الحارث بن سويد، وسمعته يقرأ: "إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا...... " حتى بلغ "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ" [الزلزلة:٧] قال: فبكى ثم قال: إن هذا الإحصاء شديد.."

- وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه-: " ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حليماً حكيماً...."

- وعن أبي رجاء قال: " كان هذا المكان من ابن عباس - رضي اله عنهما - مجرى الدموع مثل الشراك البالي

من الدموع ". (أخرج هذه الآثار ابن أبي شيبة في مصنفه (٧/٢٢٤) .

ومن خلال ما سبق يتضح ما كان عليه السلف من تدبر للقرآن وحسن فهمه واستحضارهم لمعانيه وخشوعهم عند سماعه وتلاوته فيغلبهم الوجل أوالبكاء من غير تكلف ولا تصنع بخلاف أهل البدع الذين يتصارخون عند سماع القرآن، ويتكلفون ما ليس فيهم ويتصنعون الصعق والغشيان عليهم.

وقد بدأ ظهور هذا في زمن الصحابة، قال قتادة في قوله تعالى: " تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ.." [الزمر:٢٣] قال: " هذا نعت أولياء الله -تعالى-، نعتهم الله فقال: تقشعر جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله تعالى، ولم ينعتهم الله تعالى بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع، وإنما هو من الشيطان) .

وعن عبد الله بن عروة بن الزبير - رضي الله عنه-، قال: " قلت لجدتي أسماء - رضي الله عنها - كيف كان يصنع أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا قرأوا القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله -عز وجل-: تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم، قلت: فإن ناساً ههنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم غَشْية؟ ، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان ".

وأما الأحاديث الواردة في الأمر بالتباكي فهي ضعيفة من جهة أسانيدها، ومنها: ما أخرجه ابن ماجه (١٣٢٧) من حديث سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا وَتَغَنَّوْا بِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِهِ فَلَيْسَ مِنَّا " ففي إسناده إسماعيل بن رافع وهو متروك.

وما أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص:٢٢) من حديث عبد الملك بن عمير أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: " إني قارئ عليكم سورة فمن بكى فله الجنة، فقرأها فلم يبك أحد، ثم أعاد الثانية، ثم الثالثة، فقال: ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا "، وهذا الحديث مرسل وفيه عبد الرحمن بن إسحاق وهو ضعيف..

وأخرج البيهقي حديثاً في الشعب (٥/١٩) في الأمر بالتباكي من حديث جرير بن عبد الله البجلي وقال: هذا إسناد ضعيف بمرة

وهذه الأحاديث على فرض ثبوتها محمولة على أن التباكي مندوب إليه، ومعناه أن يتدبر القارئ آيات القرآن ويستحضر معانيها مع الحرص على الخشوع، وليس المقصود ما يفعله بعض القراء من تصنع البكاء وتكلفه، فالبكاء الصادق ما يجلبه التدبر لآيات القرآن وهذا الذي كان عليه السلف رضي الله عنهم. هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

[ضعف أحاديث التباكي]

المجيب د. محمد بن عبد الله القناص

عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم

التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها

التاريخ ٦/٣/١٤٢٥هـ

السؤال

ذكر أحد الفضلاء في كتابٍ له عن البكاء والتباكي أن أحاديث الحث على التباكي كلها ضعيفة وأن االتباكي من النفاق، فما وجهة نظركم في هذا الكلام؟

الجواب

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد

نعت الله -عز وجل- عباده المؤمنين المتدبرين لكلامه المتفكرين في معانيه بوجل القلب ورقته وخشوعه وجريان الدمع عند سماعه وتلاوته فقال -تعالى-: " اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الزمر:٢٣] ، وقال -تعالى-: "إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً" [الإسراء:١٠٧-١٠٩] ، قال عبد الأعلى التيمي: (من أوتي من العلم ما لا يبكيه فليس بخليق أن يكون أوتي علماً ينفعه؛ لأن الله -تعالى- نعت العلماء فقال: "إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ.... "وتلا الآيتين.

وقال -تعالى-: "وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ... " [المائدة:٨٣] ، وفي الصحيحين البخاري (٤٥٨٢) ، ومسلم (٨٠٠) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا" [النساء:٤١] رَفَعْتُ رَأْسِي أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ "، قال ابن بطال: " وإنما بكى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند هذا لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة، وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بتصديقه والإيمان به، وسؤاله الشفاعة لهم ليريحهم من طول الموقف، وأهواله، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن "، واقتدى الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم من سلف هذه الأمة رضي الله عنهم بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ذلك فكانوا عند قراءة القرآن أو سماعه يغلبهم الوجل أو البكاء بأدب وخشية.

- ففي صحيح مسلم (٤١٨) من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في مرضه الذي تُوفي فيه: " مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ " قَالَتْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لَا يُسْمِعْ النَّاسَ....، وفي رواية قالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ ".

- وفي صحيح البخاري (٣٩٠٥) من حديث عائشة -رضي الله عنها- حين ذكرت خروج أبي بكر - رضي الله عنه- إلى أرض الحبشة، ثم رجوعه، ودخوله في جوار ابن الدَّغنة، قالت: ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَنقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَبْنَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ....

- ولما قدم أهل اليمن في زمان أبي بكر -رضي الله عنه- فسمعوا القرآن جعلوا يبكون فقال أبو بكر - رضي الله عنه-: " هكذا كنا ثم قست القلوب "

- وعن عبد الله بن شداد أنه قال: " سمعت نشيج عمر - رضي الله عنه-، وأنا في آخر الصف، وهو يقرأ سورة يوسف: "إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ" [يوسف:٨٦]

- وعن سالم بن عبد الله أن ابن عمر -رضي الله عنهما- قرأ: "وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ" [البقرة:٢٨٤] الآية فدمعت عيناه.

- وعن عبد الله بن رباح عن صفوان بن محرز أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى حتى أرى قصص زوره سيندق " وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ" [الشعراء:٢٢٧] .

- وعن إبراهيم التيمي قال: " لقد أدركت ستين من أصحاب عبد الله في مسجدنا هذا أصغرهم الحارث بن سويد، وسمعته يقرأ: "إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا...... " حتى بلغ "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ" [الزلزلة:٧] قال: فبكى ثم قال: إن هذا الإحصاء شديد.."

- وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه-: " ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حليماً حكيماً...."

- وعن أبي رجاء قال: " كان هذا المكان من ابن عباس - رضي اله عنهما - مجرى الدموع مثل الشراك البالي

من الدموع ". (أخرج هذه الآثار ابن أبي شيبة في مصنفه (٧/٢٢٤) .

ومن خلال ما سبق يتضح ما كان عليه السلف من تدبر للقرآن وحسن فهمه واستحضارهم لمعانيه وخشوعهم عند سماعه وتلاوته فيغلبهم الوجل أوالبكاء من غير تكلف ولا تصنع بخلاف أهل البدع الذين يتصارخون عند سماع القرآن، ويتكلفون ما ليس فيهم ويتصنعون الصعق والغشيان عليهم.

وقد بدأ ظهور هذا في زمن الصحابة، قال قتادة في قوله تعالى: " تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ.." [الزمر:٢٣] قال: " هذا نعت أولياء الله -تعالى-، نعتهم الله فقال: تقشعر جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله تعالى، ولم ينعتهم الله تعالى بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع، وإنما هو من الشيطان) .

وعن عبد الله بن عروة بن الزبير - رضي الله عنه-، قال: " قلت لجدتي أسماء - رضي الله عنها - كيف كان يصنع أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا قرأوا القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله -عز وجل-: تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم، قلت: فإن ناساً ههنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم غَشْية؟ ، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان ".

وأما الأحاديث الواردة في الأمر بالتباكي فهي ضعيفة من جهة أسانيدها، ومنها: ما أخرجه ابن ماجه (١٣٢٧) من حديث سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا وَتَغَنَّوْا بِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِهِ فَلَيْسَ مِنَّا " ففي إسناده إسماعيل بن رافع وهو متروك.

وما أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص:٢٢) من حديث عبد الملك بن عمير أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: " إني قارئ عليكم سورة فمن بكى فله الجنة، فقرأها فلم يبك أحد، ثم أعاد الثانية، ثم الثالثة، فقال: ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا "، وهذا الحديث مرسل وفيه عبد الرحمن بن إسحاق وهو ضعيف..

وأخرج البيهقي حديثاً في الشعب (٥/١٩) في الأمر بالتباكي من حديث جرير بن عبد الله البجلي وقال: هذا إسناد ضعيف بمرة

وهذه الأحاديث على فرض ثبوتها محمولة على أن التباكي مندوب إليه، ومعناه أن يتدبر القارئ آيات القرآن ويستحضر معانيها مع الحرص على الخشوع، وليس المقصود ما يفعله بعض القراء من تصنع البكاء وتكلفه، فالبكاء الصادق ما يجلبه التدبر لآيات القرآن وهذا الذي كان عليه السلف رضي الله عنهم. هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

<<  <  ج: ص:  >  >>