للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما سؤالك عمّن لا يقبل من الأحاديث الصحيحة إلا بما يوافق العقل أو ما في ظاهر خير الإسلام من المسلمين فصاحب هذه المقالة على خطر عظيم، وما ضل من يسمون بالعقلانيين إلا بتقديم ما تستحسنه عقولهم ويوافق أهواءهم على أحكام الشرع، ابتداء بمعتزلة العصور الأولى وانتهاء بعقلانيي العصر، وهؤلاء إنما أُتوا من قبل أنفسهم والشيطان، وإلا فإن العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح أبداً، ومن توهم ذلك فإن الغشاوة والغبش في عقله هو، وقد صنف الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- كتاباً حافلاً بين فيه -بجلاء- موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، سماه (تعارض العقل والنقل) ، ثم إن السنة وحي من الله "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى"، والعقل وصاحبه مخلوقان لله، فكيف تعارض أحكام الله بأحد مخلوقاته؟.

ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول: (إن للعقل حداً ينتهي إليه، كما أن للبصر حداً ينتهي إليه) .

ولنذكر مثالاً على هذا قصة الحديبية التي أجاب فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطة قريش مع أن هذه الخطة في ظاهرها شر على المسلمين وهضم لحقوقهم، وقد كره بعض الصحابة بنود هذه الخطة، لكنهم أذعنوا وسلموا لحكم الله ورسوله، وكانت العاقبة أن جعله الله فتحاً للإسلام والمسلمين، والوقائع في هذا كثيرة.

وليعلم قائل هذه المقولة أن قدم الإسلام لا تثبت إلا على الاستسلام والتسليم، وأن القصد الأسمى من التشريع -كما يقول الشاطبي رحمه الله-: (إخراج المكلف عن داعية الهوى؛ حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به") .

ومن خذلان هؤلاء أنهم ربما عارضوا بعض الأحاديث الصحيحة بعقولهم -كحديث الذباب- لكن إذا أثبت الطب والعلم الحديث مصداق هذا المعنى أذعنوا وسلموا لتجارب البشر، وهذا من قلة التوفيق والحرمان وطاعة الهوى والشيطان، عصمنا الله وإياكم من الضلال بعد الهدى، وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وصلى الله على نبينا محمد.

<<  <  ج: ص:  >  >>