للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومن ثم كان الصحابة - رضي الله عنهم- حريصين غاية الحرص على سماع حديث رسول - صلى الله عليه وسلم- وحفظه وتبليغه، وذلك لفرط محبتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم- بل كان حبه يعلو حبهم للأهل والأبناء والأموال، وكانوا - رضي الله عنهم- يعتمدون على ملكة الحفظ والاستظهار، وقد وهبهم الله تعالى قوة في الحفظ وسيلاناً في الأذهان وصفاء في القريحة، مما جعلهم أكثر من غيرهم في هذا، كما أنهم لم تكن متوفرة لديهم بشكل عام أدوات الكتابة، كما إن عامتهم لم يكونوا يعرفون الكتابة أصلاً، وهذا الأمر كان في العرب عموماً أعني قوة الحفظ وعدم الكتابة، ولهذا يسمى العرب الأميون، كما قال تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم ... " [الجمعة: ٢] ، وقال عليه الصلاة والسلام: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ... "أخرجه البخاري (١٩١٣) ، ومسلم ح (١٠٨٠) ، وأبو داود ح (٢٣١٩) ، والنسائي ح (٢١٤٠) .

فكل هذه العوامل الدينية والفطرية والاجتماعية والنفسية ساعدت على حفظ الصحابة - رضي الله عنهم- للأحاديث النبوية أتم الحفظ، واستظهارها أقوى استظهار.

ثم إن الطريقة الأولى في حفظ السنة سادت وانتشرت شيئاً فشيئاً، فكان ابتداؤها في عهد الصحابة -رضي الله عنهم- كما قدمنا، حتى إن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- كان لهم صحائف وكتب جمعوا فيها أهم الأحاديث مثل: الصحيفة الصادقة التي كتبها عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- والتي فيها أكثر من ألف حديث، وكذلك كان لأبي هريرة - رضي الله عنه- صحيفة جمع فيها بعض حديثه، وكذلك جابر بن عبد الله وسمرة بن جندب وغيرهم، كما كانت لهم صحائف فيها بعض حديثهم.

ولما جاء عهد التابعين اهتم علماء الحديث بكتابة السنة أكثر، فكان كل عالم يكتب ما وصله من الحديث ويدونه خشية النسيان أو الضياع، حتى جاء الخليفة عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - (ت١٠١) ، فأصدر أمراً إلى علماء الأمصار يأمرهم فيه بجمع الأحاديث، ثم بعد هذا تطور تدوين الحديث وكتابته، حتى إن العلماء جمعوه على أبواب العلم، ومن هذه الكتب على سبيل المثال موطأ الإمام مالك المولود عام ٩٣ للهجرة، والذي جمع فيه مالك - رحمه الله- ما صح عنده من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وجمع غيره من العلماء في باقي بلدان المسلمين، كمكة والكوفة والبصرة وبغداد ودمشق وغيرها.

وما زال تدوين الحديث في اتساع حتى صار الحفظ لوحده على نطاق ضيق جداً، وأصبحت العناية بضبط الكتب وحفظها من الضياع أو التلاعب، وكانوا يهتمون بذلك حتى إن أحدهم لا يعير كتابه لأحد إلا لمن يثق فيه ثقة تامة، وكان العلماء يقرئون تلاميذهم كتبهم ثم يسجلون عليها سماعاتهم بعد التثبت من ضبط التلميذ لما كتبه من الحديث، وأنه لا يوجد فيه تصحيف أو خطأ، وبقيت هذه الكتب إلى يومنا هذا شاهدة على عناية أمة الإسلام بالسنة النبوية وبتراث النبوة، فالحمد لله أولا وآخراً على نعمه التي لا تعد ولا تحصى. وصلى الله على نبينا محمد وسلَّم تسليماً.

<<  <  ج: ص:  >  >>