للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(ب) إن القدر أمر مغيب مستور عنا: فنحن لا نعرف أن الشيء مقدر إلا بعد وقوعه، أما قبل الوقوع فنحن مأمورون أن نتبع السنن الكونية، والتوجيهات الشرعية لنحرز الخير لديننا ودنيانا. إنما الغيب كتاب صانه عن عيون الخلق رب العالمين. ليس يبدو منه للناس سوى صفحة الحاضر حينًا بعد حين. وسنن الله في كونه وشرعه تحتم علينا الأخذ بالأسباب، كما فعل ذلك أقوى الناس إيمانًا بالله وقضائه وقدره، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أخذ الحذر، وأعد الجيوش، وبعث الطلائع والعيون، وقاتل بين درعين، ولبس المغفر على رأسه، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة وهاجر هو بنفسه، واتخذ أسباب الحيطة في هجرته، واختبأ في الغار، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوت سنة، ولم ينتظر أن ينزل عليه الرزق من السماء، وقال للذي سأله أيعقل ناقته أم يتركها ويتوكل: "اعقلها وتوكل" (رواه ابن حبان (٧٣١) بإسناد صحيح عن عمرو بن أمية الضمري ورواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (٩٧١) ، والحاكم ٣/٧٢٢ بإسناد جيد بلفظ "قيدها وتوكل") ، وقال: " فرّ من المجذوم فرارك من الأسد " أخرجه البخاري معلقا في كتاب الطب، باب الجذام، ووصله أحمد (٩٧٢٢) ، و" لا يورد ممرض على مصح " أخرجه البخاري (٥٧٧١) ، ومسلم (٢٢٢١) أي لا يخلط صاحب الإبل المريضة إبله بالإبل السليمة، اتقاء العدوى.

(ج) الإيمان بالقدر إذن لا ينافي العمل والسعي والجد في جلب ما نحب، واتقاء ما نكره. فليس لمتراخ أو كسلان أن يلقي على القدر كل أوزاره وأثقاله، وأخطائه وخطاياه، فهذا دليل العجز والهرب من المسئولية، ورحم الله الدكتور محمد إقبال إذ قال: "المسلم الضعيف يحتج بقضاء الله وقدره، أما المسلم القوي فهو يعتقد أنه قضاء الله الذي لا يرد، وقدره الذي لا يغلب". وهكذا كان المسلمون الأولون يعتقدون:.ففي معارك الفتح الإسلامي دخل المغيرة بن شعبة على قائد من قواد الروم فقال له: من أنتم؟ قال: نحن قدر الله، ابتلاكم الله بنا، فلو كنتم في سحابة لصعدنا إليكم، أو لهبطتم إلينا!!. ولا ينبغي أن يلجأ الإنسان إلى الاعتذار بالقدر إلا حينما يبذل وسعه، ويفرغ جهده وطاقته، وبعد ذلك يقول: هذا قضاء الله.

والقضاء الإلهي ينقسم إلى قسمين:

القضاء ينقسم إلى قسمين: قضاء مبرم مثل الموت فلا محيد عنه، والقضاء المعلق يرفع بالدعاء أو بالأسباب، فالرزق تسعى إليه وتلك أسباب.. والمرض تذهب عنده للطبيب فيصف لك الدواء لتأخذ فيحدث الشفاء، وإذا لم يتم الشفاء نتضرع إلى الله بالدعاء، فقد يتم الشفاء وإلا فيصبح الداء قضاء مبرما لحكمة وعلة يعلمها الله، وقطعا ستكون لصالحك في دينك ودنياك وآخرتك. هناك قضاء يستوجب منك الصبر أو الشكر (فقد مال أو سعة في الرزق أو ضيق في الرزق مثلا) . قضاء يستلزم المعالجة بالأخذ بالأسباب أو بالدعاء أو بهما معا. قضاء أنت حر فيه وفي حدود حريتك أنت محاسب تصلي أولا تصلي تفعل الخير أو لا تفعل تنفق أو لا تنفق.

وهكذا قس على ذلك. فعلى العبد أن يرضى بما أقامه الله فيه من الأسباب والتجريد ما لم يكن في مباشرة أحدهما تضييع أمر من أوامر الله أو ارتكاب ما نهى عنه الله، وإلا وجب عليه المسارعة في الانتقال والطلب من الله بالدعاء لينقله مما يغضبه إلى ما يرضيه.

إن عقيدة القضاء والقدر إذا فهمت على وجهها الصحيح، وحسب فهم سلفنا الصالح للشرع الشريف ستوجه سلوك المسلم توجيها صحيحا لا عوج فيه، وسينعم باله معها ـ بإذن الله ـ وهو يواجه أحداث الحياة وتقلبات الزمان.. والله تعالى أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>