للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَيَتَّصِلُ بِهَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَةُ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ وَهَذَا.

(بَابُ فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ)

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَجَازَ تَخْصِيصَ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ كَانَتْ عِلَّتِي تُوجِبُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ لَمْ تُوجِبْ لِمَانِعٍ فَصَارَ مَخْصُوصًا مِنْ الْعِلَّةِ بِهَذَا الدَّلِيلِ

ــ

[كشف الأسرار]

عَلَيْهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَنَظَرُوا إلَى الْفِقْهِ، وَمَعَانِيهِ بِأَفْهَامٍ كَلِيلَةٍ وَعُقُولٍ حَسِيرَةٍ فَعَدُّوا ذَلِكَ ظَاهِرًا مِنْ الْأَمْرِ، وَلَمْ يُعْتَقَدْ لَهَا كَثِيرُ مَعَانٍ يَلْزَمُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا، وَقَالُوا لَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ إلَّا فِي مَحْضِ ظَنٍّ يَعْثِرُ عَلَيْهِ بِنَوْعِ أَمَارَةٍ، وَلَا يَسْتَقِيمُ تَكْلِيفُهُ سِوَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ حَقٌّ وَاحِدٌ مَطْلُوبٌ بَلْ مَطْلُوبُ الْمُجْتَهِدِ هُوَ الظَّنُّ لِيَعْمَلَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبُ الْمُجْتَهِدِ مُجَرَّدَ ظَنٍّ، وَالظَّنُّ قَدْ يَسْتَوِي فِيهِ الْعَالِمُ وَالْعَامِّيُّ، وَقَدْ يَكُونُ بِدَلِيلٍ.

وَقَدْ يَكُونُ بِلَا دَلِيلٍ بَلْ الْمَطْلُوبُ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَادِثَةِ بِالْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَلَا يَقِفُ عَلَيْهَا إلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ عَرَفُوا مَعَانِيَ الشَّرْعِ وَطَلَبُوهَا بِالْجَهْدِ الشَّدِيدِ وَالْكَدِّ الْعَظِيمِ حَتَّى أَصَابُوهَا فَأَمَّا مَنْ يَنْظُرُ إلَيْهِ مِنْ بُعْدٍ وَيَظُنُّهُ سَهْلًا مِنْ الْأَمْرِ، وَلَا يَعْرِفُ إلَّا مُجَرَّدَ ظَنٍّ يَظُنُّهُ الْإِنْسَانُ فَيَعْثِرُ هَذِهِ الْعَثْرَةَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي لَا انْتِعَاشَ عَنْهَا وَيَعْتَقِدُ تَصْوِيبَ كُلِّ الْمُجْتَهِدِينَ بِمُجَرَّدِ ظُنُونِهِمْ فَيُؤَدِّي قَوْلُهُ إلَى اعْتِقَادِ الْأَقْوَالِ الْمُتَنَاقِضَةِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَإِلَى خَرْقِ الْإِجْمَاعِ وَالْخُرُوجِ عَلَى الْأُمَّةِ وَحَمْلِ أَمْرِهِمْ عَلَى الْجَهْلِ، وَقِلَّةِ الْعِلْمِ وَتَرْكِ الْمُبَالَاةِ فِيمَا نَصَبُوا مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَأَسْهَرُوا لَيَالِيَهُمْ، وَأَتْعَبُوا فِكْرَهُمْ فِي اسْتِخْرَاجِهَا، وَإِظْهَارِ تَأْثِيرَاتِ مَا ادَّعَوْهَا مِنْ الْعِلَلِ ثُمَّ نِهَايَةُ أَمْرِهِمْ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ وَصَلُوا إلَى مِثْلِ مَا وَصَلَ مُخَالِفُوهُمْ، وَأَنَّ مَا وَصَلُوا إلَيْهِ عِنْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَضِدُّهُ حَقٌّ، وَقَوْلُهُمْ وَقَوْلُ مُخَالِفِيهِمْ سَوَاءٌ فَيَكُونُ سَعْيُهُمْ شِبْهَ ضَائِعٍ وَثَمَرَتُهُ كَلَا ثَمَرَةٍ، وَبُطْلَانُ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ، وَلَعَلَّ حِكَايَتَهُ تُغْنِي كَثِيرًا مِنْ الْعُقَلَاءِ عَنْ إقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَتَّصِلُ بِهَذَا الْأَصْلِ أَيْ بِبَيَانِ أَحْكَامِ الْعِلَّةِ مَسْأَلَةُ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. أَوْ يَتَّصِلُ بِمَسْأَلَةِ تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَتَخْطِئَتِهِمْ مَسْأَلَةُ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ كَمَا سَيَأْتِيك بَيَانُهُ، وَهَذَا أَيْ مَا نَشْرَعُ فِيهِ.

[بَابُ فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ]

(بَابُ فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ) تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ عِبَارَةٌ عَنْ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عَنْ الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلَّةً لِمَانِعٍ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ تَخْصِيصًا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْنًى، وَلَا عُمُومَ لِلْمَعْنَى حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهُ بِاعْتِبَارِ حُلُولِهِ فِي مَحَالَّ مُتَعَدِّدَةٍ يُوصَفُ بِالْعُمُومِ فَإِخْرَاجُ بَعْضِ الْمَحَالِّ الَّتِي تُوجَدُ فِيهَا الْعِلَّةُ عَنْ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ فِيهِ، وَقَصْرُ عَمَلِ الْعِلَّةِ عَلَى الْبَاقِي يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّخْصِيصِ كَمَا أَنَّ إخْرَاجَ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ عَنْ تَنَاوُلِ لَفْظِ الْعَامِّ إيَّاهُ، وَقَصْرِهِ عَلَى الْبَاقِي تَخْصِيصٌ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَتَى وَرَدَ عَلَيْهَا نَقْضٌ تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَقِضَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً شَرْعِيَّةً. وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَالشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ إنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ جَائِزٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَعَامَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَذَهَبَ مَشَايِخُ دِيَارِنَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ فَأَمَّا فِي الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ فَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ عَلَى الْجَوَازِ فِيهَا. وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْ التَّخْصِيصَ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ فَأَكْثَرُهُمْ جَوَّزَهُ فِي الْمَنْصُوصَةِ وَبَعْضُهُمْ مَنَعَهُ فِي الْمَنْصُوصَةِ أَيْضًا، وَهُوَ مُخْتَارُ عَبْدِ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الإِسْفِرايِينِي، وَقِيلَ إنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

احْتَجَّ الْمُجَوِّزُونَ بِأَنَّ الْعِلَّةَ

<<  <  ج: ص:  >  >>