للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَشِدَّةُ الرِّعَايَةِ كَمَا قِيلَ فِي الثُّلَاثِيِّ مِنْهُ:

الذِّئْبِ يَأْدُ لِلْغَزَالِ بِأَكْلِهِ

أَيْ يَحْتَالُ وَيَتَكَلَّفُ فَيَخْتِلُهُ وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَأَحْكَامُ الشَّيْءِ نَفْسِهِ لَا يُنْبِئُ عَنْ شِدَّةِ الرِّعَايَةِ

وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي الْقَضَاءِ أَيَجِبُ بِنَصٍّ مَقْصُودٍ أَمْ بِالسَّبَبِ الَّذِي يُوجِبُ الْأَدَاءَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِنَصٍّ مَقْصُودٍ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ عُرِفَتْ قُرْبَةٌ بِوَقْتِهَا وَإِذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا وَلَا يُعْرَفُ لَهَا مِثْلٌ إلَّا بِالنَّصِّ كَيْفَ يَكُونُ لَهَا مِثْلٌ بِالْقِيَاسِ.

وَقَدْ ذَهَبَ وَصْفُ فَضْلِ الْوَقْتِ وَقَالَ عَامَّتُهُمْ يَجِبُ بِذَلِكَ السَّبَبِ

ــ

[كشف الأسرار]

لِأَنَّهُ فِي اللُّغَةِ يُنَبِّئُ عَنْ شِدَّةِ الرِّعَايَةِ وَالِاسْتِقْصَاءِ فِي الْخُرُوجِ عَمَّا لَزِمَهُ وَذَلِكَ بِتَسْلِيمِ عَيْنِ الْوَاجِبِ لَا بِتَسْلِيمِ مِثْلِهِ بَعْدَمَا فَاتَ فَلَا يُمْكِنُ إطْلَاقُهُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمِثْلِ إلَّا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ؛ فَلِهَذَا يَحْتَاجُ إلَى التَّقْيِيدِ بِقَرِينَةٍ فَأَمَّا الْقَضَاءُ فَإِحْكَامُ الشَّيْءِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي تَسْلِيمِ الْمِثْلِ وَالْعَيْنِ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِمَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى التَّقْيِيدِ بِالْقَرِينَةِ.

وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الْقَضَاءُ فِي الْأَدَاءِ مَجَازًا لِمَا فِيهِ مِنْ إسْقَاطِ الْوَاجِبِ وَيُسْتَعْمَلُ الْأَدَاءُ فِي الْقَضَاءِ مَجَازًا لِمَا فِيهِ مِنْ التَّسْلِيمِ فَجُعِلَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّيْخَ نَظَرَ إلَى مَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيِّ فَوَجَدَ مَعْنَى الْقَضَاءِ شَامِلًا لِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَتَسْلِيمِ الْمِثْلِ فَجَعَلَهُ حَقِيقَةً فِيهِمَا وَوَجَدَ مَعْنَى الْأَدَاءِ خَاصًّا فِي تَسْلِيمِ الْعَيْنِ فَجَعَلَهُ مَجَازًا فِي غَيْرِهِ فَاشْتَرَطَ التَّقْيِيدَ بِالْقَرِينَةِ وَالْقَاضِي الْإِمَامُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ نَظَرَا إلَى الْعُرْفِ أَوْ الشَّرْعِ فَوَجَدَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَاصًّا بِمَعْنًى فَجَعَلَاهُ مَجَازًا فِي غَيْرِ مَا اخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ بِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ إلَّا أَنَّ لِلْأَدَاءِ خُصُوصًا مُقَامٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْأَدَاءَ قَدْ يُسَمَّى قَضَاءً وَعَلَى الْعَكْسِ إلَّا أَنَّ الْأَدَاءَ مُخْتَصٌّ بِتَسْلِيمِ عَيْنِ الْوَاجِبِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْقَضَاءِ بِتَسْلِيمِ الْمِثْلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ يُنْبِئُ عَنْ شِدَّةِ الرِّعَايَةِ وَالْقَضَاءُ لَا يُنْبِئُ عَنْ شِدَّةِ الرِّعَايَةِ بَلْ عَنْ مُجَرَّدِ الْإِحْكَامِ فَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِتَسْلِيمِ الْمِثْلِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شِدَّةُ الرِّعَايَةِ بَلْ فِيهِ نَوْعُ قُصُورٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مُقَيَّدًا مُتَّصِلًا بِالْجُمْلَتَيْنِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: ٢٠٣] وَيَكُونُ مَعْنَاهُ وَيُسَمَّى الْأَدَاءُ قَضَاءً مُقَيَّدًا بِقَرِينَةٍ وَيُسْتَعْمَلُ الْأَدَاءُ فِي الْقَضَاءِ مُقَيَّدًا بِقَرِينَةٍ، وَقَوْلُهُ نَفْسُ الْوَاجِبِ وَعَيْنُهُ تَرَادُفٌ، وَقَوْلُهُ فِي الثُّلَاثِيِّ أَيْ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ مِنْ مُنْشَعِبَةِ الثُّلَاثِيِّ يُقَالُ أَدَّى يُؤَدِّي أَدَاءً وَتَأْدِيَةً كَمَا يُقَالُ سَلَّمَ يُسَلِّمُ سَلَامًا وَبَلَغَ يَبْلُغُ بَلَاغًا.

وَقَوْلُهُ يَأْدُو وَذَكَرَ فِي الصِّحَاحِ يُقَالُ الذِّئْبُ يَأْدُو لِلْغَزَالِ أَيْ يَخْتِلُهُ لِيَأْكُلَهُ وَالْخَتْلُ الْخِدَاعُ وَأَدَوْت لَهُ وَأَدَّيْت أَيْ خَتَلْته وَهَذَا مَثَلٌ يُضْرَبُ فِي مُقَاسَاةِ الْمَرْءِ فِي الشَّيْءِ وَمُعَانَاتِهِ لِرَجَاءِ نَفْعٍ يَعُودُ إلَيْهِ فِي عَاقِبَتِهِ، ثُمَّ حَاصِلُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْأَدَاءِ عَلَى مَعْنَى الْقَضَاءِ كَقَوْلِهِ نَوَيْت أَنْ أُؤَدِّيَ ظُهْرَ الْأَمْسِ وَعَكْسُهُ كَقَوْلِهِ نَوَيْت أَنْ أَقْضِيَ الظُّهْرَ الْوَقْتِيَّةَ جَائِزٌ، فَأَمَّا صِحَّةُ الْأَدَاءِ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ حَقِيقَةً كَنِيَّةِ مَنْ نَوَى أَدَاءَ ظُهْرِ الْيَوْمِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْوَقْتَ بَاقٍ، وَكَنِيَّةِ الْأَسِيرِ الَّذِي اشْتَبَهَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ فَتَحَرَّى شَهْرًا وَصَامَهُ بِنِيَّةِ الْأَدَاءِ فَوَقَعَ صَوْمُهُ بَعْدَ رَمَضَانَ، وَعَكْسُهُ كَنِيَّةِ مَنْ نَوَى قَضَاءَ الظُّهْرِ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ خَرَجَ، وَهُوَ لَمْ يَخْرُجْ بَعْدُ، وَكَنِيَّةِ الْأَسِيرِ الَّذِي صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ قَدْ مَضَى فَلَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ؛ لِأَنَّهُ؛ وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى قَصْدِ الْقَلْبِ وَلَمْ يَذْكُرْ بِاللِّسَانِ شَيْئًا فَلَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنًى وَلَيْسَ هَهُنَا لَفْظٌ؛ وَإِنْ ضُمَّ إلَيْهِ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِكُلِّ لَفْظٍ حَقِيقَتَهُ حِينَئِذٍ وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ، وَأَمَّا جَوَازُهُ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ النِّيَّةِ وَلَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي الظَّنِّ وَالْخَطَأُ فِي مِثْلِهِ مَعْفُوٌّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ

[الْقَضَاءِ هَلْ يَجِبُ بِنَصٍّ مَقْصُودٍ أَمْ بِالسَّبَبِ الَّذِي يُوجِبُ الْأَدَاءَ]

قَوْلُهُ (وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ) أَيْ مَشَايِخُنَا وَاللَّامُ بَدَلُ الْإِضَافَةِ، فِي الْقَضَاءِ أَيَجِبُ بِنَصٍّ مَقْصُودٍ أَيْ بِنَصٍّ قُصِدَ بِهِ إيجَابُ الْقَضَاءِ

<<  <  ج: ص:  >  >>