للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ فَهُوَ كَغَيْرِ الْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ إذَا ضُمِنَ بِالْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ كَانَ مِثْلًا غَيْرَ مَعْقُولٍ مِثْلُ النَّفْسِ تُضْمَنُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِلنَّفْسِ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَالِكٌ وَالْمَالَ مَمْلُوكٌ فَلَا يَتَشَابَهَانِ بِوَجْهٍ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْمَالَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ مِثْلًا عِنْدَ احْتِمَالِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مِثْلُ الْأَوَّلِ صُورَةً وَمَعْنًى وَهُوَ إلَى الْإِحْيَاءِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ أَقْرَبُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَاحِمَهُ مَا لَيْسَ بِمِثْلٍ

ــ

[كشف الأسرار]

الْعَمْدِ وَلَمَّا تَقَوَّمَتْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ عَرَفْنَا أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِيهَا فَيَثْبُتُ تَقَوُّمُهَا فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ أَيْضًا، ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ فَقَالَ: إنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى ثُبُوتَ تَقَوُّمِهَا لِمَا مَرَّ مِنْ الدَّلَائِلِ وَلَكِنَّهَا تَقَوَّمَتْ بِالنَّصِّ فِي الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَى التَّقَوُّمِ حَاجَةٌ فَنَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى.

قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ) أَيْ بِأَنَّ التَّقَوُّمَ ثَبَتَ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ ابْتِغَاءَ الْإِبْضَاعِ بِالْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: ٢٤] ، وَالْأَمْوَالُ إنَّمَا تُضَافُ إلَيْنَا بِوَاسِطَةِ الْإِحْرَازِ الَّذِي بِهِ يَثْبُتُ التَّقَوُّمُ لِلْأَمْوَالِ فَثَبَتَ أَنَّ الِابْتِغَاءَ بِالْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ.

، ثُمَّ هَذَا النَّصُّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الِابْتِغَاءُ إلَّا بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: ٢٤] بِشَرْطِ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَالْمَشْرُوطُ لَا وُجُودَ لَهُ بِدُونِ الشَّرْطِ، وَالشَّرْعُ جَوَّزَ الِابْتِغَاءَ بِالْمَنَافِعِ فَإِنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى رَعْيِ غَنَمِهَا سَنَةً جَازَ قَالَ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: ٢٧] ، فَعَرَفْنَا ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْعَقْدِ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ حَيْثُ صَحَّ الِابْتِغَاءُ بِهَا، وَبَطَلَتْ الْمُقَايَسَةُ؛ لِأَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالْعُدْوَانِ يَعْنِي لَا يَثْبُتُ بِهِ أَصْلُ الْمَالِ وَلَا فَضْلُهُ فَإِنَّهُ إذَا أَتْلَفَ جِلْدَ مَيْتَةٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَوْ أَتْلَفَ ثَوْبَ إنْسَانٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْعُدْوَانِ فِي إيجَابِ أَصْلٍ وَلَا فَضْلٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[الْقَضَاءُ بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ]

قَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِلنَّفْسِ صُورَةً) وَهَذَا ظَاهِرٌ إذْ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْإِبِلِ أَوْ الدَّرَاهِمِ صُورَةً، وَلَا مَعْنَى؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَالِكٌ مُبْتَذِلٌ لِمَا سِوَاهُ وَالْمَالُ مَمْلُوكٌ مُبْتَذَلٌ لَهُ وَلَا تَسَاوِيَ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكِ بَلْ هُمَا عَلَى التَّضَادِّ فِي الدَّرَجَةِ هَذَا فِي الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا وَذَلِكَ فِي الدَّرَجَةِ السُّفْلَى، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْمَالِ هُوَ مَا خُلِقَ الْمَالُ لَهُ مِنْ إقَامَةِ الْمَصَالِحِ بِهِ وَمَعْنَى الْآدَمِيِّ هُوَ مَا خُلِقَ لَهُ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَالْخِلَافَةِ فِي أَرْضِهِ لِإِقَامَةِ حُقُوقِهِ وَتَحَمُّلِ أَمَانَتِهِ وَلَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَلِأَنَّ الْمَالَ جُعِلَ مِثْلٌ لِمَالٍ آخَرَ يُخَالِفُهُ صُورَةً بِتَسَاوِيهِمَا فِي قَدْرِ الْمَالِيَّةِ لَا غَيْرُ وَهَذَا الْمُتْلِفُ لَيْسَ بِمَالٍ فَكَانَ طَرِيقُ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا مُنْسَدًّا، وَلِأَنَّ الْمِثْلَ مَعْنًى عِبَارَةٌ عَنْ قِيمَةِ الشَّيْءِ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قَدْرِ مَالِيَّتِهِ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الشَّيْءُ مَالًا لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ.

قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِكَوْنِ الْمُمَاثَلَةِ غَيْرَ مَعْقُولَةٍ بَيْنَ الْمَالِ وَالنَّفْسِ قُلْنَا الْمَالُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِطَرِيقِ الْمِثْلِ عِنْدَ احْتِمَالِ الْقَوَدِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ مِثْلًا؛ لِأَنَّ الْمَالَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ مَشْرُوعٌ مَعَ احْتِمَالِ الْقَوَدِ بِالِاتِّفَاقِ.

وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقَوَدُ عَلَى التَّعْيِينِ عِنْدَنَا لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَى الْمَالِ إلَّا صُلْحًا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ مُوجِبُهُ الْقَوَدُ أَوْ الدِّيَةُ وَالْخِيَارُ إلَى الْوَلِيِّ فِي التَّعْيِينِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» ، فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبٌ الْقَتْلَ وَإِنَّ الْوَلِيَّ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْقَتْلِ شُرِعَ لِجَبْرِ حَقِّ الْمَقْتُولِ فِيمَا فَاتَ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ حَالَةِ الْخَطَأِ فَإِنَّ الْفَوَاتَ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ يَقَعُ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ يَقْضِي بِهِ دُيُونَهُ وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ أَمَّا الْقِصَاصُ فَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْوَارِثُ إذْ التَّشَفِّي يَحْصُلُ لَهُ وَلِهَذَا كَانَ الْمَقْتُولُ شَهِيدًا فِي الْعَمْدِ دُونَ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ نَفْعَ الْقِصَاصِ لَا يَعُودُ إلَيْهِ بِخِلَافِ

<<  <  ج: ص:  >  >>