للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى الْفَوْرِ لِمَا قُلْنَا وَمِثَالُهُ كَثِيرٌ.

وَأَمَّا الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ فَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [غافر: ٥٨] سَقَطَ عُمُومُهُ وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ لِأَنَّ مَحَلَّ الْكَلَامِ وَهُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ لَا يَحْتَمِلُهُ لِأَنَّ وُجُوهَ الِاسْتِوَاءِ قَائِمَةٌ فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْكَلَامِ

ــ

[كشف الأسرار]

الْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ لِكَلَامِ الدَّاعِي وَأَنَّهُ قَدْ دَعَاهُ إلَى تَغَدِّي الْفِدَاءِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ لَا إلَى غَيْرِهِ فَيُقَيَّدُ بِهِ وَإِذَا تَقَيَّدَ كَلَامُ الدَّاعِي بِهِ يُقَيَّدُ الْجَوَابُ بِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَتَغَدَّى الْفِدَاءَ الَّذِي دَعَوْتنِي إلَيْهِ وَقِسْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَسْأَلَةَ الْخُرُوجِ.

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا لَوْ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ إنَّك تَغْتَسِلُ فِي هَذِهِ الدَّارِ اللَّيْلَةَ مِنْ الْجَنَابَةِ فَقَالَ إنْ اغْتَسَلْت فَعَبْدِي حُرٌّ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْيَمِينِ سَبَقَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَمْ يُسْبَقْ بِهِ وَكَانُوا يَقُولُونَ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَمِينُ مُؤَبَّدَةٌ كَقَوْلِهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَمُؤَقَّتَةٌ كَقَوْلِهِ لَا أَفْعَلُ الْيَوْمَ كَذَا فَأَخْرَجَ أَبُو حَنِيفَةَ قِسْمًا ثَالِثًا وَهُوَ مَا يَكُونُ مُؤَبَّدًا لَفْظًا وَمُوَقَّتًا مَعْنًى وَأَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِهِ حَيْثُ دُعِيَا إلَى نُصْرَةِ إنْسَانٍ فَحَلَفَا أَنْ لَا يَنْصُرَاهُ ثُمَّ نَصَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يَحْنَثَا وَبِنَاءُ الْكَلَامِ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ مَقْصُودِ الْمُتَكَلِّمِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ لِمَا بَيَّنَّا فِي قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ} [الإسراء: ٦٤] إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِقْدَارِ وَالتَّمْكِينِ لِاسْتِحَالَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْصِيَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الدَّاعِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي الْتِمَاسٌ لَا أَمْرٌ لِمَعْنًى فِي الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِالْتِمَاسَ ضَرُورَةً قَوْلُهُ (عَلَى الْفَوْرِ) أَيْ عَلَى الْحَالِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ فَارَتْ الْقِدْرُ إذَا غَلَتْ فَاسْتُعِيرَ لِلسُّرْعَةِ ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ الْحَالَةُ الَّتِي لَا رَيْثَ فِيهَا وَلَا لُبْثَ فَقِيلَ جَاءَ فُلَانٌ مِنْ فَوْرِهِ أَيْ مِنْ سَاعَتِهِ وَفِي الصِّحَاحِ ذَهَبْت فِي حَاجَةٍ ثُمَّ أَتَيْت فُلَانًا مِنْ فَوْرِي أَيْ قَبْلَ أَنْ أَسْكُنَ وَالتَّحْقِيقُ الْأَوَّلُ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ.

[الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ]

قَوْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [غافر: ٥٨] حَقِيقَةٌ لِلْعُمُومِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الثَّابِتَ بِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ لُغَةً نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ إلَّا أَنَّ الْعَمَلَ بِعُمُومِهَا مُتَعَذِّرٌ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ مِثْلُ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالذُّكُورَةِ وَغَيْرِهَا فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْبَعْضِ لِنُبُوَّةِ الْمَحَلِّ عَنْ قَبُولِ الْعُمُومِ ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى أَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ فَحَوَى الْكَلَامِ وَهُوَ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْبَصَرِ فِي هَذَا النَّظِيرِ وَنَفْيُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْفَوْزِ فِي قَوْله تَعَالَى {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: ٢٠] وَذَهَبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ إلَى نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا عَلَى الْعُمُومِ فِيمَا أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِهِ مُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْعُمُومِ وَاجِبٌ مَهْمَا أَمْكَنَ فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ سُقُوطُ الْعَمَلِ بِهِ فِيمَا بَقِيَ كَالْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: ١٠٢] لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّ ذَاتَ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتَهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَهُ بَقِيَ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ وَلَنَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمَّا لَمْ يَقْبَلْ الْعُمُومَ لِعَدَمِ صُدُورِهِ فِي مَحَلِّ الْعُمُومِ لَمْ يَنْعَقِدْ لِلْعُمُومِ أَصْلًا لِأَنَّ الشَّيْءَ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ مَحَلِّهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ إنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ فَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ النَّصِّ وَعَلَى مَا يَتَيَقَّنُ بِهِ أَنَّهُ مُرَادٌ بِخِلَافِ الْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ انْعَقَدَ لِلْعُمُومِ ثُمَّ خُصَّ بَعْضُ الْأَفْرَادِ بِعَارِضٍ لَحِقَهُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ الْمُعَارِضِ فَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ عَلَى الْعُمُومِ.

وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ عِنْدَهُ وَأَنَّ دِيَتَهُ لَا يَكُونُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ وَأَنَّ اسْتِيلَاءَ الْكَافِرِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ سَبَبَ الْمِلْكِ كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَالِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: ٢٠] وَالْقَوْلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>