للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَهْلُ الْإِيمَانِ عَلَى طَبَقَتَيْنِ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ مَنْ يُطَالِبُ بِالْإِمْعَانِ فِي السَّيْرِ لِكَوْنِهِ مُبْتَلًى بِضَرْبٍ مِنْ الْجَهْلِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُطَالِبُ بِالْوَقْفِ لِكَوْنِهِ مُكَرَّمًا بِضَرْبٍ مِنْ الْعِلْمِ فَأَنْزَلَ الْمُتَشَابِهَ تَحْقِيقًا لِلِابْتِلَاءِ

ــ

[كشف الأسرار]

مُتَشَابِهٍ يُمْكِنُ رَدُّهُ إلَى مُحْكَمٍ فَإِنَّ الرَّاسِخَ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: ٦٧] ، فَهَذَا مُتَشَابِهٌ يُمْكِنُ رَدُّهُ إلَى قَوْله تَعَالَى {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه: ٥٢] ، الَّذِي هُوَ مُحْكَمٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ جَازَاهُمْ النِّسْيَانَ، وَهُوَ التَّرْكُ وَالْإِعْرَاضُ وَكُلُّ مُتَشَابِهٍ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ إلَى مُحْكَمٍ فَالرَّاسِخُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف: ١٨٧] ، ثُمَّ الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ هُوَ الثَّابِتُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا يَتَهَيَّأُ اسْتِزْلَالُهُ وَتَشْكِيكُهُ، وَقِيلَ هُوَ الَّذِي حَقَّقَ الْعِلْمَ لِبَسْطِ الْفُرُوعِ بِالِاجْتِهَادِ حَتَّى رَسَخَ فِي قَلْبِهِ. وَقِيلَ هُوَ الَّذِي حَقَّقَ الْعِلْمَ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْقَوْلِ بِالْعَمَلِ، وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «الرَّاسِخُ مِنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ وَصَدَقَ لِسَانُهُ وَاسْتَقَامَ قَلْبُهُ وَعَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ»

[بَيَان الْحِكْمَة فِي إنْزَال الْآيَات الْمُتَشَابِهَات]

قَوْلُهُ (وَأَهْلُ الْإِيمَانِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْخِطَابُ الْمُنَزَّلُ إمَّا لِلتَّعْرِيفِ أَوْ لِلتَّكْلِيفِ وَلَا بُدَّ فِيهِمَا مِنْ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ لِيُمْكِنَهُ الْعَمَلُ بِهِ أَوْ يَحْصُلَ لَهُ الْمَعْرِفَةُ بِهِ، فَإِذَا انْسَدَّ بَابُ الْعِلْمِ بِهِ أَصْلًا خَلَا عَنْ الْحِكْمَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ خَاطَبَ عَبْدَهُ بِشَيْءٍ لَا يَفْهَمُهُ لَا يُعَدُّ مِنْ الْحِكْمَةِ وَلَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْوَاتِ الطُّيُورِ فَبَيَّنَ الْحِكْمَةَ بِقَوْلِهِ وَأَهْلُ الْإِيمَانِ عَلَى طَبَقَتَيْنِ أَيْ مَنْزِلَتَيْنِ فِي الْعِلْمِ، مِنْهُمْ مَنْ يُطَالَبُ أَيْ يُؤْمَرُ، بِالْإِمْعَانِ أَيْ الْمُبَالَغَةِ فِي السَّيْرِ أَيْ فِي الطَّلَبِ مِنْ أَمْعَنَ الْفَرَسُ إذَا تَبَاعَدَ فِي عَدْوِهِ، لَكَوَّنَهُ مُبْتَلًى بِضَرْبٍ مِنْ الْجَهْلِ إنَّمَا قَالَ بِضَرْبٍ وَلَمْ يَقُلْ بِالْجَهْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا أَصْلًا فَأُنْزِلَ الْمُحْكَمُ وَالْمُفَسَّرُ وَنَحْوُهُمَا ابْتِلَاءً لِمِثْلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطَالَبُ بِالْوَقْفِ أَيْ بِالْوُقُوفِ عَنْ الطَّلَبِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى اللَّازِمِ؛ وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا يُقَالُ عَلَى رَأْسِ هَذِهِ الْآيَةِ وَقْفٌ أَيْ وُقُوفٌ أَوْ مَعْنَاهُ وَقْفُ النَّفْسِ عَنْ الطَّلَبِ أَيْ حَبْسِهَا.

فَأُنْزِلَ الْمُتَشَابِهُ تَحْقِيقًا لِلِابْتِلَاءِ أَيْ فِي حَقِّهِ أَوْ تَتْمِيمًا لِلِابْتِلَاءِ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى فِي الِابْتِلَاءِ بِإِنْزَالِ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْكِلِ وَالْخَفِيِّ فَإِنَّ الْكُلَّ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا جَلِيًّا بَطَلَ مَعْنَى الِامْتِحَانِ وَنَيْلُ الثَّوَابِ بِالْجَهْدِ فِي الطَّلَبِ وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ مُشْكِلًا خَفِيًّا لَمْ يُعْلَمْ شَيْءٌ حَقِيقَةً فَجَعَلَ بَعْضَهَا جَلِيًّا ظَاهِرًا وَبَعْضَهَا خَفِيًّا لِيَتَوَسَّلَ بِالْجَلِيِّ إلَى مَعْرِفَةِ الْخَفِيِّ بِالِاجْتِهَادِ وَإِتْعَابِ النَّفْسِ وَإِعْمَالِ الْفِكْرِ فَيَتَبَيَّنُ الْمُجِدُّ مِنْ الْمُقَصِّرِ وَالْمُجْتَهِدُ مِنْ الْمُفَرِّطِ فَيَكُونُ ثَوَابُهُمْ بِقَدْرِ اجْتِهَادِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ عَلَى قَدْرِ عُلُومِهِمْ فَيَظْهَرُ فَضِيلَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى الرُّجُوعِ إلَيْهِمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاسْتَوَتْ الْأَقْدَامُ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ الْخَاصُّ مِنْ الْعَامِّ وَلَذَهَبَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ النَّاسِ وَلَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا تَفَاوَتُوا، فَإِذَا اسْتَوَوْا هَلَكُوا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى، {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: ١٦٥] ، وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ تَعَالَى ابْتَلَى عِبَادَهُ بِضُرُوبٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ بَعْضُهَا عَلَى كُلِّ الْبَدَنِ كَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا وَبَعْضُهَا مُتَفَرِّقٌ عَلَى الْأَعْضَاءِ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِكُلِّ عُضْوٍ إقْدَامًا وَامْتِنَاعًا وَالْقَلْبُ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ فَابْتَلَاهُ بِإِنْزَالِ الْخَفِيِّ وَالْمُشْكِلِ وَالْمُتَشَابِهِ لِيَتْعَبَ بِالتَّفَكُّرِ فِيمَا سِوَى الْمُتَشَابِهِ فَيُخَرِّجَهُ عَلَى مُوَافَقَةِ الظَّاهِرِ الْجَلِيِّ وَيَمْتَنِعَ عَنْ التَّفَكُّرِ فِي الْمُتَشَابِهِ مُعْتَقِدًا حَقِّيَّتَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ عِبَادَةً مِنْهُ كَعِبَادَاتِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ بِالْإِقْدَامِ وَالِامْتِنَاعِ، وَذَكَرَ فِي عَيْنِ الْمَعَانِي الْحِكْمَةُ فِي إنْزَالِ الْمُتَشَابِهِ ابْتِلَاءُ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ فِي تَكْلِيفِ الْأَحْكَامِ ابْتِلَاءَ الْعَاقِلِ وَلَهُ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>