للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَابُ بَيَانِ شَرَائِطِ الرَّاوِي)

الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِ الرَّاوِي وَهِيَ أَرْبَعَةٌ الْعَقْلُ وَالضَّبْطُ وَالْإِسْلَامُ وَالْعَدَالَةُ أَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلَامِ مَا يُسَمَّى كَلَامًا صُورَةً وَمَعْنًى وَمَعْنَى الْكَلَامِ لَا يُوجَدُ إلَّا بِالتَّمْيِيزِ وَالْعَقْلِ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِلْبَيَانِ، وَلَا يَقَعُ الْبَيَانُ بِمُجَرَّدِ الصَّوْتِ وَالْحُرُوفِ بِلَا مَعْنَى وَلَا يُوجَدُ مَعْنَاهُ إلَّا بِالْعَقْلِ وَكُلُّ مَوْجُودٍ مِنْ الْحَوَادِثِ فَبِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ يَكُونُ فَلِذَلِكَ كَانَ الْعَقْلُ شَرْطًا لِيَصِيرَ الْكَلَامَ مَوْجُودًا، وَأَمَّا الضَّبْطُ فَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا صَحَّ خَبَرًا فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَالْحُجَّةُ هُوَ الصِّدْقُ فَأَمَّا الْكَذِبُ فَبَاطِلٌ وَالْكَلَامُ فِي خَبَرٍ هُوَ حُجَّةٌ فَصَارَ الصِّدْقُ وَالِاسْتِقَامَةُ شَرْطًا لِلْخَبَرِ لِيَثْبُتَ حُجَّةً بِمَنْزِلَةِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّمْيِيزِ لِأَصْلِ الْكَلَامِ، وَالصِّدْقُ بِالضَّبْطِ يَحْصُلُ فَأَمَّا الْعَدَالَةُ فَإِنَّمَا شُرِطَتْ؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي خَبَرِ مُخْبِرٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ فَلَا يَثْبُتُ صِدْقُهُ ضَرُورَةً بَلْ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالِاحْتِمَالِ وَذَلِكَ بِالْعَدَالَةِ وَهُوَ الِانْزِجَارُ عَنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِ لِيَثْبُتَ بِهِ رُجْحَانُ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ الصِّدْقِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُنَافِي الصِّدْقَ وَلَكِنْ الْكُفْرُ فِي هَذَا الْبَابِ يُوجِبُ شُبْهَةً يَجِبُ بِهَا رَدُّ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ الْبَابَ بَابُ الدِّينِ، وَالْكَافِرُ سَاعٍ لِمَا يَهْدِمُ الدِّينَ الْحَقَّ فَيَصِيرُ مُتَّهَمًا فِي بَابِ الدِّينِ فَثَبَتَ بِالْكُفْرِ تُهْمَةٌ زَائِدَةٌ لَا نُقْصَانُ حَالٍ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِيمَا يَشْهَدُ لِوَلَدِهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُقْبَلْ شَهَادَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ لِمَا قُلْنَا: مِنْ الْعَدَاوَةِ وَلِانْقِطَاعِ الْوَلَايَةُ.

ــ

[كشف الأسرار]

[بَابُ بَيَانِ شَرَائِطِ الرَّاوِي]

(بَابُ بَيَانِ شَرَائِطِ الرَّاوِي الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِ الرَّاوِي) مَا ذُكِرَ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ كَوْنِ الرَّاوِي مَعْرُوفًا أَوْ مَجْهُولًا لَيْسَ بِصِفَةٍ لَهُ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ أَوْ الْجَهْلَ لَيْسَ بِقَائِمٍ بِهِ بَلْ يَقُومُ بِغَيْرِهِ كَالْعِلْمِ لَا يَقُومُ بِالْمَعْلُومِ بَلْ بِالْعَالِمِ فَأَمَّا الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْعَقْلِ وَالضَّبْطِ وَالْإِسْلَامِ وَالْعَدَالَةِ فَقَائِمٌ بِالرَّاوِي وَصِفَةٌ لَهُ فَلِهَذَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ مِنْ صِفَاتِ الرَّاوِي، قَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلَامِ) كَذَا يَعْنِي الْخَبَرُ الَّذِي يَرْوِيهِ كَلَامٌ لَا مَحَالَةَ وَالْكَلَامُ فِي الْعُرْفِ مَالَهُ صُورَةٌ وَهِيَ أَنْ يُنَظَّمَ مِنْ حُرُوفٍ مُهَجَّاةٍ وَمَعْنًى وَهُوَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَدْلُولِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَعْنًى لَا تُوجَدُ بِدُونِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْكَلَامُ وُضِعَ لِلْبَيَانِ أَيْ لِإِظْهَارِ الْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ فِي الْقَلْبِ، وَلَا يَحْصُلُ الْبَيَانُ بِمُجَرَّدِ الصَّوْتِ وَالْحُرُوفِ بِلَا مَعْنًى، وَلَا يُوجَدُ الْمَعْنَى بِدُونِ الْعَقْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يُسْمَعُ مِنْ الطُّيُورِ حُرُوفٌ مَنْظُومَةٌ وَيُسَمَّى ذَلِكَ لَحْنًا لَا كَلَامًا لِعَدَمِ صُدُورِهَا عَنْ عَقْلٍ وَتَمْيِيزٍ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ بِقِرَاءَةِ الْبَبَّغَاءِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ لِعَدَمِ صُدُورِهَا عَنْ عَقْلٍ وَتَمْيِيزٍ وَكَذَلِكَ لَوْ سُمِعَ مِنْ إنْسَانٍ حُرُوفٌ مَنْظُومَةٌ لَا تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى مَعْلُومٍ لَا تُسَمَّى كَلَامًا فَعَرَفْنَا أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ فِي الشَّاهِدِ مَا يَكُونُ مُمَيِّزًا بَيْنَ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ فَمَا لَا يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَكُونُ كَلَامًا صُورَةً لَا مَعْنًى بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صُنِعَ مِنْ خَشَبٍ صُورَةُ آدَمِيٍّ لَا يَكُونُ آدَمِيًّا لِعَدَمِ مَعْنَاهُ فِيهَا، ثُمَّ التَّمْيِيزُ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْكَلَامُ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْعَقْلِ فَلِذَلِكَ شَرَطْنَاهُ فِي الْمُخْبِرِ لِيَصِيرَ خَبَرُهُ كَلَامًا بِمَنْزِلَةِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّمْيِيزِ لِأَصْلِ الْكَلَامِ يَعْنِي لَا بُدَّ لِأَصْلِ الْكَلَامِ عَنْ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ مَعْرِفَةٍ أَيْ عَنْ عَقْلٍ وَتَمْيِيزٍ لِيَقَعَ صَحِيحًا هَكَذَا لَا بُدَّ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْهُ وَهُوَ الْخَبَرُ عَنْ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ ضَبْطٍ لِيَكُونَ مُحْتَمَلًا لِلصِّدْقِ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ بِدُونِ الضَّبْطِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّكَلُّمِ صَادِقًا وَبِالضَّبْطِ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ.

ثُمَّ الضَّابِطُ قَدْ يَكْذِبُ وَقَدْ يَصْدُقُ؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي خَبَرِ مُخْبِرٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ فَلَا يَثْبُتُ صِدْقُهُ فِي خَبَرِهِ ضَرُورَةً أَيْ لَا يَكُونُ جِهَةُ الصِّدْقِ مُتَعَيِّنَةً فِي خَبَرِهِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ كَمَا فِي خَبَرِ الرَّسُولِ بَلْ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالِاحْتِمَالِ أَوْ بَلْ يَثْبُتُ الصِّدْقُ فِي خَبَرِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَذَلِكَ بِالْعَدَالَةِ وَالِانْزِجَارِ أَيْ الِامْتِنَاعِ عَنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِ لِيَثْبُتَ بِهِ أَيْ بِالِانْزِجَارِ عَنْ الْمَحْظُورَاتِ رُجْحَانُ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ مَحْظُورُ دِينِهِ فَيُسْتَدَلُّ بِانْزِجَارِهِ عَنْ سَائِرِ مَا يَعْتَقِدُهُ مَحْظُورًا عَلَى انْزِجَارِهِ عَنْ الْكَذِبِ الَّذِي يَعْتَقِدُهُ مَحْظُورًا أَوْ لَمَّا كَانَ مُنْزَجِرًا عَنْ الْكَذِبِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ انْزِجَارِهِ عَنْ الْكَذِبِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَأَحْكَامِ الشَّرْعِ بِالطَّرِيقِ أَوْلَى وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَدْلًا فِي تَعَاطِيهِ فَاعْتِبَارُ جَانِبِ اعْتِقَادِهِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ فَاعْتِبَارُ جَانِبِ تَعَاطِيهِ يُرَجِّحُ مَعْنَى الْكَذِبِ فِي خَبَرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَالِ مِنْ ارْتِكَابِ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ مَعَ اعْتِقَادِ حُرْمَتِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُبَالِي مِنْ الْكَذِبِ مَعَ اعْتِقَادِ حُرْمَتِهِ أَيْضًا فَيَقَعُ الْمُعَارَضَةُ وَيَجِبُ التَّوَقُّفُ لِلْعَمَلِ شَرْعًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَدَالَةَ فِي الرَّاوِي شَرْطٌ لِكَوْنِ خَبَرِهِ حُجَّةً، قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْإِسْلَامُ) فَكَذَا ذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِسْلَامِ فِي الرَّاوِي بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْفِسْقِ، وَالْفَاسِقُ غَيْرُ مَقْبُولِ الرِّوَايَةِ فَالْكَافِرُ أَوْلَى بِأَنْ لَا يُوثَقَ بِهِ فَشُرِطَ الْإِسْلَامُ لِتَرَجُّحِ الصِّدْقِ كَمَا شُرِطَتْ الْعَدَالَةُ وَالضَّبْطُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>