للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَامٌّ وَمَا دُونَهُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ فَالْأَوَّلُ عَزِيمَةٌ مُطْلَقَةٌ وَالثَّانِي رُخْصَةٌ انْقَلَبَتْ عَزِيمَةً أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْحِفْظُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ الْخَطِّ وَهَذَا فَضْلٌ خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِقُوَّةِ نُورِ الْقَلْبِ اسْتَغْنَى عَنْ الْخَطِّ، وَكَانُوا لَا يَكْتُبُونَ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ صَارَتْ الْكِتَابَةُ سُنَّةً فِي الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ صِيَانَةً لِلْعِلْمِ لِفَقْدِ الْعِصْمَةِ مِنْ النِّسْيَانِ.

(وَهَذَا بَابُ الْكِتَابَةِ وَالْخَطِّ) وَهَذَا يَتَّصِلُ بِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ بَابِ الضَّبْطِ.

وَهُوَ نَوْعَانِ مَا يَكُونُ مُذَكَّرًا، وَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي انْقَلَبَ عَزِيمَةً وَمَا يَكُونُ إمَامًا لَا يُفِيدُ تَذَكُّرُهُ، أَمَّا الَّذِي يَكُونُ مُذَكَّرًا فَهُوَ حُجَّةٌ سَوَاءٌ كَانَ خَطُّهُ أَوْ خَطُّ رَجُلٍ مَعْرُوفٍ أَوْ مَجْهُولٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الذِّكْرُ وَالِاحْتِرَازُ عَنْ النِّسْيَانِ غَيْرُ مُمْكِنٍ

ــ

[كشف الأسرار]

كَالسَّمَاعِ وَالتَّبْلِيغِ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قِسْمَانِ تَامٌّ أَيْ كَامِلٌ وَمَا دُونَ التَّامِّ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِهِ يَعْنِي قُصُورَهُ إنَّمَا يَظْهَرُ إذَا قُوبِلَ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَالْقِسْمُ الثَّانِي الَّذِي انْقَلَبَ عَزِيمَةً أَقْوَى مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ حَتَّى كَانَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ الْكِتَابِ أَقْوَى مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْ الْحِفْظِ لِتَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِيهِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ الْعَزِيمَةُ الْمُطْلَقَةُ فَالْحِفْظُ مِنْ وَقْتِ السَّمَاعِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ الْخَطِّ أَيْ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى كِتَابَةِ الْمَسْمُوعِ خَوْفًا مِنْ النِّسْيَانِ وَمِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى الرُّجُوعِ إلَى كِتَابٍ لِلتَّذَكُّرِ بَلْ الْحِفْظُ مُسْتَدَامٌ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَالْحِفْظِ بِالْقَلْبِ غَايَةَ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْحِفْظِ وَمَعْدِنُهُ، وَكَانُوا لَا يَكْتُبُونَ أَيْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا يَكْتُبُونَ الْأَخْبَارَ بَلْ يَحْفَظُونَهَا وَيَرْوُونَهَا عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ بِبَرَكَةِ صُحْبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا دَنَا انْقِرَاضُ عَصْرِهِمْ وَبَعُدَ زَمَانُ النُّبُوَّةِ صَارَتْ الْكِتَابَةُ سُنَّةً أَيْ طَرِيقَةً مُرْضِيَةً فِي الْكِتَابِ أَيْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحَدِيثِ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَأْخُذُونَ الْعِلْمَ حِفْظًا ثُمَّ أُبِيحَ لَهُمْ الْكِتَابُ أَيْ الْكِتَابَةُ لِمَا حَدَثَ بِهِمْ مِنْ الْكَسَلِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ» أَيْ بِالْكِتَابَةِ، وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي جَوَازِ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ فَكَرِهَهَا عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو مُوسَى وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي جَمَاعَةٍ آخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَبَاحَهَا عَلِيٌّ وَابْنُهُ الْحَسَنُ وَأَنَسٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَالْحُجَّةُ لِلْفَرِيقِ الْأَوَّلِ مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا إلَّا الْقُرْآنَ وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلِيَمْحُهُ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ.

وَالْحُجَّةُ لِلْفَرِيقِ الثَّانِي حَدِيثُ «أَبِي شَاهٍ الْيَمَنِيِّ فِي الْتِمَاسِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكْتُبَ لَهُ شَيْئًا سَمِعَهُ مِنْ خُطْبَتِهِ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ» .

وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ» وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ فِي الْكِتَابَةِ عَنْهُ لِمَنْ خَشَى عَلَيْهِ النِّسْيَانُ وَنَهَى عَنْ الْكِتَابَةِ عَنْهُ مَنْ وَثِقَ بِحِفْظِهِ مُحَافَظَةَ الِاتِّكَالِ عَلَى الْكِتَابِ أَوْ نَهَى عَنْ كِتَابَةِ ذَلِكَ حِينَ خَافَ عَلَيْهِمْ اخْتِلَاطُ ذَلِكَ بِصُحُفِ الْقُرْآنِ وَأَذِنَ فِي كِتَابَتِهِ حِينَ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ أَنَّهُ زَالَ ذَلِكَ الْخِلَافُ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَسْوِيغِ ذَلِكَ وَإِبَاحَتِهِ وَلَوْلَا تَدْوِينُهُ لِدَرَسَ فِي الْأَعْصُرِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صِيَانَةً لِلْعِلْمِ عَنْ الِانْدِرَاسِ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ صَارَتْ الْكِتَابَةُ سُنَّةً.

وَقَوْلُهُ لِفَقْدِ الْعِصْمَةِ عَنْ النِّسْيَانِ تَعْلِيلٌ لِلْمَجْمُوعِ أَيْ صَيْرُورَةَ الْكِتَابَةِ سُنَّةً لِأَجْلِ الصِّيَانَةِ بِاعْتِبَارِ فَقْدِ الْعِصْمَةِ عَنْ النِّسْيَانِ بِفَوَاتِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَوْلُهُ ثُمَّ صَارَتْ الْكِتَابَةُ بَيَانَ الْقِسْمِ الثَّانِي.

[بَابُ الْكِتَابَةِ وَالْخَطِّ]

وَهَذَا أَيْ الَّذِي نَشْرَعُ فِيهِ (بَابُ الْكِتَابَةِ وَالْخَطِّ) :

وَهُمَا وَاحِدٌ وَهَذَا أَيْ هَذَا الْقِسْمُ أَوْ هَذَا الْبَابُ يَتَّصِلُ بِبَابِ الضَّبْطِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِالْحِفْظِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْكِتَابَةِ، وَهُوَ نَوْعَانِ أَيْ الْحَاصِلُ بِالْكِتَابَةِ وَالْخَطِّ، وَهُوَ الْكِتَابُ نَوْعَانِ مَا يَكُونُ مُذَكَّرًا، وَهُوَ مَا يُتَذَكَّرُ بِالنَّظَرِ فِيهِ مَا كَانَ مَسْمُوعًا لَهُ وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الذِّكْرُ فَلَا يُبَالِي بَعْدَ حُصُولِهِ بِأَنْ حَصَلَ بِالتَّفَكُّرِ أَوْ بِالنَّظَرِ فِي الْكِتَابِ وَالنِّسْيَانُ الْوَاقِعُ قَبْلَ التَّذَكُّرِ مَعْفُوٌّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ فِي حَقِّ عَدَمِ جَوَازِ الرِّوَايَةِ أَدَّى إلَى تَعْطِيلِ الْأَخْبَارِ وَالْأَحَادِيثِ كَيْفَ وَالنِّسْيَانُ مُرَكَّبٌ فِي الْإِنْسَانِ وَلَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ إلَّا بِحَرَجٍ بَيِّنٍ وَذَلِكَ مَدْفُوعٌ وَبَعْدَ النِّسْيَانِ النَّظَرُ فِي الْكِتَابِ طَرِيقٌ لِلتَّذَكُّرِ وَعَوْدٌ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْحِفْظِ، وَإِذَا عَادَ كَمَا كَانَ فَالرِّوَايَةُ تَكُونُ عَنْ حِفْظٍ تَامٍّ

<<  <  ج: ص:  >  >>