للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما أنفس نفسه وأبين دلائل الفضل عليه وأقوى العقل منه وأوسع في البلاغة درعه، وكان الرشيد قد ولاه خراسان، فأقام بها مدة، فوصل كتاب صاحب البريد بخراسان ويحيى جالس بين يديه، ومضمون الكتاب أن الفضل بن يحيى متشاغل بالصيد وإدمان اللذات عن النظر في أمور الرعية، فلما قرأه الرشيد رمى به إلى يحيى، وقال له: يا أبة اقرأ هذا الكتاب، واكتب إليه ما يردعه عن هذا، فكتب يحيى على ظاهر كتاب صاحب البريد: حفظك الله يا بني وأمنع بك، قد انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنت عليه من التشاغل بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمور الرعية ما أنكره، فعاود ما هو أزين بك، فإن من عاد إلى ما يزينه أو يشينه لم يعرفه أهل دهره إلا به والسلام. وكتب في أسفله أبياتاً مضمونها التحريض على التستر في الليل بما لا ينبغي إظهاره، والظهور بالنهار بما ينبغي اشتهاره، كرهت ذكرها في هذا الكتاب، فحذفتها، لتضمنها التحريض على التستر بالذات، وإيهام التنسك مع إخفاء تناول الشهوات المحرمات، وكان الرشيد ينظر إلى ما يكتب، فلما فرغ قال: ابلغت يا أبة، فلما ورد الكتاب على الفضل لم يفارق المسجد نهاراً إلى أن ينصرف عن عمله، وقيل له ما أحسن كرمك لولايته فيك فقال: تعلمت الكرم والتيه من عمارة بن حمزة، فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال: كان أبي عاملاً على بعض بلاد فارس فانكسرت عليه جملة مستكثرة، فحمل إلى بغداد وطولب بالمال، فدفع جميع ما يملكه، وبقيت عليه ثلاثة آلاف درهم لا يعرف لها وجهاً، والطلب عليه حثيث، فبقي حائراً في أمره، وكانت بينه وبين عمارة بن حمزة منافرة ومواحشة لكنه علم أنه لا يقدر على مساعدته إلا هو، فقال لي يوماً وأنا صبي امض إلى عمارة وسلم عليه عني، وعرفه الضرورة التي صرنا إليها، واطلب منه هذا المبلغ على سبيل القرضة إلى أن يسهل الله سبحانه وتعالى، فقلت له أنت تعلم ما بينكما، وكيف أمضي إلى عدوك بهذه الرسالة؟ وأنا أعلم أنه لو قدر على إتلافك لأتلفك، فقال: لا بد أن تمضي إليه، لعل الله يسخره ويوقع في قلبه الرحمة، قال الفضل: فلم يمكني معاودته وخرجت وأنا أقدم رجلاً وأؤخر أخرى حتى أتيت داره، واستأذنت عليه في الدخول فأذن لي، فلما دخلت وجدته على صدر إيوانه متكئاً على مفارش وثيرة، وقد غلف شعر رأسه ولحيته بالمسك، ووجهه إلى الحائط، وكان من شدة بهته لا يقعد إلا كذلك، قال الفضل: فوقفت أسفل الإيوان وسلمت عليه فلم يرد السلام، فسلمت عليه عن أبي وقصصت عليه القصة فسكت ساعة، ثم قال: حتى ننظر، فخرجت من عنده نادماً على نقل خطواتي إليه. موقناً بالحرمان عاتباً على أبي كونه كلفني إذلال نفسه ونفسي بما لا فائدة فيه، وعزمت على أن لا أعود إليه غيظاً منه، فغبت عنه ساعة، ثم جئته وقد سكن ما عندي، فلما وصلت إلى الباب وجدت بغالاً محملة، فقلت: ما هذه؟ فقيل إن عمارة قد سير المال فدخلت على أبي

<<  <  ج: ص:  >  >>