للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وحكى بعضهم قال: كنت في حلقة شعبة بن الحجاج، فضجر من إملاء الحديث، فرمى بطرفه، فرأى أبا زيد الأنصاري في أخريات الناس، فقال: يا أبا زيد، فجاءه، فجعلا يتحدثان ويتناشدان الأشعار، فقال بعض أصحاب الحديث: يا أبا بسطام، نقطع إليك ظهور الإبل لنسمع منك حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتدعنا وتقبل على الأشعار؟ قال: فغضب شعبة غضباً شديداً ثم قال: يا هؤلاء، أنا أعلم بالأصلح إلي أنا والله الذي لا إله إلا هو في هذا أسلم مني في ذلك، قلت: كأنه والله أعلم يشير إلى ترويح القلب بالشعر عند سأمته، كما قال أبو الدرداء: إني لاحم نفسي بشيء من الباطل لأستعين به على الحق، ولأنه عند شرح الأحكام نخشى من الوقوع في خطر يؤدي إلى الأنام، وعمر رحمه الله تعالى حتى قارب المائة وقال بعض العلماء: كان الأصمعي يحفظ ثلث اللغة، وكان أبو زيد يحفظ ثلثها، وكان صدوقاً صالحاً، رحمة الله عليه.

وفيها، وقيل: في سنة سبع عشرة ومائتين توفي أبو الفضل عمرو بن مسعدة بن سعيد الكاتب، أحد وزراء المأمون وكان كاتباً بليغاً جزل العبارة وخيرها، شديد المقاصد والمعاني، أمره المأمون أن يكتب كتاباً إلى بعض العمال بالوصية عليه والإعتناء بأمره، فكتب له: كتابي إليك كتاب واثق ممن كتب إليه معتبي لمن كتب له، ولن يضيع بين الثقة والعتابة بوصله والسلام، وقيل هذا من كلام الحسن بن وهب، والأول أصح وأشهر، وله كل معنى بديع، وله رسالة بديعة كتبها إلى بعض الرؤساء، وقد تزوجت أمه فساءه ذلك، فلما قرأها ذلك الرئيس تسلى بها، وذهب عنه ما كان يجده، وهي الحمد لله الذي كفر عنا شر الخيرة، وهدانا لستر العورة، وجدع بما شرع من الحلال أنف الغيرة، ومع من عضل الأمهات، كما منع من وأد البنات استنزلاً للنفوس الأبية عن الحمية، حمية الجاهلية، ثم عرض بجزيل الأخذ من استسلم لواقع قضائه، وعرض جليل الذخر من صبر على نازل بلائه، وهناك الذي شرح للتقوى صدرك، ووسع في البلوى صبرك، وألهمك التسليم لمشيئته والرضا بقضيته.

قلت: هذا بعض الرسالة المذكورة، وقيل أنها لأبي الفضل ابن الحميد.

وقال أحمد بن يوسف الكاتب: وصلت إلى المأمون وهو ممسك كتاباً بيده، وقد أطال النظر فيه زماناً، وأنا ملتفت إليه، فقال: يا أحمد، أراك مفكراً فيما تراه مني، قلت: نعم، وقى أمير المؤمنين المكاره وأعاده من المخلوف، قال: فإنه لا مكروه فيه، ولكني قرأت كلاماً وجدته نظير ما سمعته من الرشيد، يقول في البلاغة، كان يقول: البلاغة التباعد عن الإطالة والتقرب من معنى البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ على المعنى، أو قال: على الكثير من المعنى، وما كنت أتوهم أن أحداً يقدر على المبالغة في هذا المعنى، حتى قرأت

<<  <  ج: ص:  >  >>