للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أبي طاهر محمد بن أحمد الاسفرائيني الفقيه الشافعي، شيخ طريقة العراق، وإمام الشافعية بالاتفاق. انتهت إليه رئاسة الدنيا والدين ببغداد، وكان يحضر مجلسه أكثر من ثلائمائة فقيه هكذا ذكر بعضهم، وقال بعضهم: سبع مائة فقيه، علق على مختصر المزني تعاليق، وطبق الأرض بالأصحاب، وله فى المذاهب: التعليقة الكبرى في نحو خمسين مجلداً، وكتاب البستان، ذكر فيه غرائب، وهو كتاب صغير. أخذ الفقه عن أبي الحسن بن المرزباني، ثم عن أبي القاسم الداركي. واتفق أهل عصره على جلالته وتفضيله وتقديمه في جودة النظر. وذكر الخطيب أنه حدث بشيء يسير عن عبد الله بن عدي، وأبي بكر الاسماعيلي، وابراهيم بن محمد الاسفرائيني وغيرهم. وقال: وكان ثقة، ورأيته غير مرة، وحضرت تدريسه، وسمعت من يذكر أنه كان يحضر درسه سبعمائة متفقه. وكان الناس يقولون: لو رآه الشافعي لفرح به. وحكى الشيخ أبو إسحاق في كتاب الطبقات أن أبا الحسن القدوري كان يعظمه ويفضله على كل أحد، وأن الوزير أبا القاسم علي بن الحسن حكى له عن القدوري أنه قال: أبو حامد عندي أفقه وأنظر من الشافعي. قال الشيخ أبو إسحاق: فقلت له: هذا القول من القدوري، حمله عليه اعتقاده في الشيخ أبي حامد، وتعصبه للحنفية على الشافعي، ولا يلتفت إليه فإن أبا حامد، ومن هو أعلم منه وأقدم على بعد من تلك الطبقة، وما مثل الشافعي ومثل من بعده إلا كما قال الشاعر:

نزلوا بمكة في قبائل نوفل ... ونزلت بالبيداء أبعد منزل

وقال تلميذه الإمام سليم الرازي: كان لا يخلو له وقت عن اشتغال، حتى إنه كان إذا أبوأ القلم قرأ القرآن أو سبح، وكذلك إذا كان ماراً في الطريق. وروى القاضي الإمام طاهر ابن الإمام العلامة صاحب البيان يحيى بن أبي الخير العمراني اليمني بسنده عن بعض شيوخه بالسند المتصل عن الإمام أبي الفتوح يحيى بن عيسى بن ملامس، عن والده قال: لقيت الشيخ الإمام أبا حامد الاسفرائيني بمكة في بعض المواسم، فرأيت عليه ثياباً ثمينة من ثياب الملوك، ورأيته يركب مراكب الملوك، ورأيته في الطواف والناس يعظمونه فقرأ في الطواف قارىء: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً " - القصص ٨٣ - فبكى الشيخ أبو حامد بكاء شديداً، وسمعته يقول: أما العلو يا رب فقد أردناه، وأما الفساد فلم نرده. وروي أنه قابله بعض الفقهاء في مجلس المناظرة بما لا يليق، ثم أتاه في الليل معتذراً إليه، فأنشده أبو حامد:

جفاء جرى جهراً لدى الناس وانبسط ... وعذراً أتى سراً فأكد ما فرط

<<  <  ج: ص:  >  >>