للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأكثر وأطال، وتفقه فأتقن مذهب الشافعي، وبرع في الآدب وجود القرآن بروايات، وكان اشتغاله بالفقه على أبي الحسن الكيا، وفي اللغة على الخطيب يحيى بن علي التبريزي اللغوي، وقصده الناس من الأماكن البعيدة، وسمعوا عليه وانتفعوا به، ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله، وبنى له العادل أبو الحسن علي بن السلار - وزير الظافر العبيدي صاحب مصر مدرسة في الإسكندرية، وفوضها إليه ومما وجه بخطه من قصيدة لمحمد بن عبد الجبار الأندلسي.

لولا اشتغال بالأمير ومدحه ... لأطلت في ذاك الغزال تغزلي

لكن أوصاف الجلال غلبنني ... فتركت أوصاف الجمال بمعزل

واستوطن الإسكندرية بضعاً وستين سنة مكباً على الاشتغال والمطالعة والنسخ وتحصيل الكتب، وجاوز المائة بلا ريب، وإنما النزاع في مقدار الزيادة، ومات يوم الجمعة بكرة الخامس ربيع الآخر رحمه الله تعالى. وفيها توفي شمس الدولة الملك المعظم توران شاه بن أيوب بن شاذي، وكان أسن من أخيه صلاح الدين، وكان يحترمه ويتأدب معه. أرسله فغزا النوبة، فسبى وغنم، ثم بعثه فافتتح اليمن - وكانت بيد الخوارج الباطنية - وأقام بها ثلاث سنين، بعثه إليها لما بلغه أن باليمن، إنساناً يسمى عبد النبي بن مهدي يزعم أنه ينتشر ملكه حتى يملك الأرض كلها، وكان قد ملك كثيراً من بلاد اليمن واستولى على حصونها، وخطب لنفسه، فجهز صلاح الدين جيشاً إليها مع أخيه المذكور من الديار المصرية في رجب سنة تسع وستين وخمسمائة، فمضى إليها، ففتح الله على يديه، وقتل الخارجي المذكور الذي كان فيها، وملك معظمها، وأعطى وأغنى خلقاً كثيراً، وكان كريماً أريحياً، ثم اشتاق إلى أطيب الشام ونضارتها، وكان القاضي الفاضل يكتب إليه الرسائل الفائقة، ويودعها شرح الأشواق. وكانت له من أخيه إقطاعات، وتوابه باليمن يجبون له الأموال. ومات وعليه من الديون مائتا ألف دينار، فقضاها عنه أخوه صلاح الدين. ولما تزايد به الشوق قدم إلى الشام وأقام بدمشق نائباً لأخيه، ثم تحول إلى مصر فتوفي بالإسكندرية، فنقل إلى الشام، فدفنته أخته ست الشام بمدرستها التي أنشأتها بظاهر دمشق، فهناك قبره وقبر ولدها حسام الدين، وكان قد تزوجها ناصر الدين، وتوفيت في ذي القعدة سنة ست عشرة وستمائة. وحكى الشيخ الأديب الفاضل مهذب الدين أبو طالب - نزيل مصر قال: رأيت في النوم شمس الدولة وهو ميت، فمدحته بأبيات وهو في القبر، فلف كفنه ورماه إلي

<<  <  ج: ص:  >  >>